اتص بنا

رواية اسوار مملكة السر

أسوار مملكة السر
روايه
تاليف
سعد عزيزالغالبي
حين بدأ صياحها يعلو ، فإن الديكة قد أعلنت نهايةَ الليلِ ، آذنة بقدومِ لحظات
الفجر , كان وميض السماء القادم من مكان بعيد في علوٍ غير معلوم في ساعةِ
الليل الأخيرةِ ، يكشف عن بيوت القرية المزدحمة ، والمتلاصقة جدرانها , وكأن
بناتها قصدوا ذلك , خشية منهم أن تجثوا جدرانها على الأرض .
ومن شباك عتيق ، من غرفة مبنية من الطين تسلل الضوء الى الخارج ، كاشفاً
عن سيل المطر القادم من الأعالي .
في تلك الحجرة حيث لم يكن أبو فاضل ليعلم كيف اِستيقظ من منامهِ .. هل
صوت الرعدِ وزخات المطر المرتطمة بسقفِ حجرته المصنوع من حصائرِ القصبِ
وأعمدةِ الأشجارِ الملتويةِ ؟ أَم صوت مؤذن القرية في حينها وهو يدعو للصلاة حين
بدى متقطع نتيجة تلاطم امواج الهواء العالي - فسيان الأمر لديه - حيث كلا
السببين هي دعوة الى الله.
جلسَ أبو فاضل على سريرهِ الخشبي المصنوع من جَريد أشجار النخيلِ ، ذلك
السرير المتبقي من بقية ما إشتراه من آثاث يوم زواجه .ابو فاضل بدأ يصغي
باِنتباه شديد وكأنه أراد أن يعرف ، هل توقف المطر ..ولكن لضربات قطرات المطر
النازل على سقف الحجرة , تلك القطرات التي أحسها ثقيلة حيث كانت تحدث
صوت يشبه قرع طبول قادم من مكان بعيد .. ؟ .. عندئذ أيقن إنها لم تتوقف ،
حيث لازالت الغيوم مثقلة ولابد لكل شيء أن ينزل الى الأرض ، ولكن أراد أن
يختبر أرض حجرته ، هل تسلل ماء المطر ، ذلك الزائر الشتوي الى قرب سريره ؟
بساقيهِ المتأَرجحتينِ من أعلى السريرِ بدأ يلامس بقدميهاالعاريتين وجه الأرض
البارد حيث بدى بارداً كبرودة الشتاء خارج الحجرة.. فهو يعرف أن الشتاء القادم
هذه السنة بارد .
تمتم قائلاً : حسناً.. ولكن أين أصبح ..
بدت قدميه وكأنها تبحث عن شىء قد ضاع منه ،عبثا كان يحاول ، فهولايعلم أين
وضع نعليه , تلك كانت مشكلته ,وإحساس بالعجز يراوده عند كل فجر جديد منذ
أن فقد بصره ... حيث إنه الآن أعمى ولكنه يواسي النفس دائماً حين يحتال عليها
معللاً ذلك بفقد بصره ايام الطفولة .
شعور بالألم قد تملكه ، ونفذ في قرارة نفسه، ذلك الشعور الذي طالما أخفاه عن
الآخرين ..أما الآن فهو وحده , إلا مع ربه , الذي يعلم كل شيء عنه..إنه في
ساعات الفجر ، وكان إعتقاد قد تولد لديه من قديم إن الله يستجيب للدعاء حين
يحل الفجر .
إستطاعَ ابو فاضل أن يخرج بنفسهِ من دوامةِ الدوران في دائرة الألم تلك ,
متحّدثاً الى نفسهِ وهو يقول :
 إن الإنسان يُختبر في هذه الحياة ، وإني لأظن , إني الآن وسط هذا الاختبار ،
ترى هل أستطيع اجتيازه , أعلم أن ثمة أشياء تحدث للإنسان في هذه الدنيا , إما
أن تجعله ضعيفا واهنا, أو قوي ولكن أظن إنني قوي حين أستطيع التميز بين
الأشياء ولكن كيف ؟! .
تبسم أبو فاضل بسخرية وهو يتكأ على راحة يديه الممدودتين بجانبيه ، حين
أدرك أن خياله يقوده إلى حيث تكون مساعدة الآخرين منتفية بالنسبة له, فأدرك
بضرورة استدعاء زوجته " حليمة "حتى تتمكن من مساعدتهِ , وبصوتٍ منخفض ،
راح يتلفظ باسم زوجته في المكان مراراً :
- حليمة... ياحليمه ؟
كان يظن قربها لأنها تعودت النوم على الأرض ، وبالقرب من سريره ، ولكنه عَلِمَ
إن زوجته لم تكن متواجدة في مكانها ، عندها صمت عن الكلام وهو ينتظر
قدومها.
صوت باب حجرتة الخشبي القديم وهو يفتح - و قد إنتخب صوت الصرير، متعللاً
ببرد الشتاء ، حين يجعل الأشياء متماسكة - جعل أبا فاضل يستدير بوجهه ناحية
الصوت , وراح يسمع خطوات القادم .
أدرك أبو فاضل بحاسة الشم ، إن عطرالمِسك الذي ملأ المكان يأتي دائماً, عندما
تحضر زوجتة، فحليمة كانت تسمح جلدها بذرات من رماد ذلك العطر ..ربما لكي
يشعرها بإنوثتها التي بدأت تفارق ذلك الجسد.
كان ضياء القنديل الموضوع على رفٍ ملتصقٍ بالحائطِ , يكشف ثناياجسدها الممتلأ
المحافظ على يقايا من الإنوثة .. يكاد ثوبها - الأزرق المطرز بورود بيضاء كبيره -
يتمزق عندما تخطو .
ثمة إحساس شعرت به حليمه أثناء دخولها الحجرة , كتمته ولم تفصح عنه ,
وحين إتخذت طريقها  كانت تلتزم الصمت  متوجهه ناحية النافذة ذات الخشب
العتيق .. هناك عند ذلك الشباك فعلت ما أرادت وأفصحت عن السر الصغير لذلك
الكتمان ، حين فتحت النافذة .
أحسَ أبو فاضل بلسعةِ الهواءِ الباردِ يلفحَ وجهه , لقرب النافذه من سريره ، فأمال
وجهه جانبا وهو
يتمتم :- ماالذي فعلتيه ياامرأه ؟
قالت حليمه :
- هواءالحجره يبعث بالنفس ضيقا ، أحاول أن أبدد هذا الشعور ! .
قال أبو فاضل :
انه الشتاء بأولهِ ،وأوله’ يحرق كما سمعنا ، ثم إن الوقت لازال فجرا بالله عليك
إغلقي الذي فتحتيه وإقتربي لتحضري نعليَّ .
قالت وهي تمتثل للأمر:
- الأمر لك ، وهل غايتي إلا راحتك .
قال أبو فاضل وزوجته تتقدم نحوه :
- من أين تأتي الراحة ؟ الراحة ونحن في خصام منذ أمد بعيد!!
انحنت حليمة بالقرب من قدميّ زوجها، وراحت تبحث عن ضالتها، حين وجدت ما
أراد زوجها قالت وهي تنظر إلى تلك القدمين :
- انتعل نعليك ... أما أنا فقد بدأ مشواري بالعمل..... كما هو كل يوم.
اعتدلت في وقوفها وراحت تنظر إلى زوجها.......فأردفت قائلةً :
-المطر توقف ، أظن إن المطر توقف.
قال أبو فاضل:
- السماء ملبده بالغيوم ، إني أشم ذلك ، وما دامت هذا حالها ، سوف تظل
الأبصار شاخصة نحوها ولا يتسلل الهدوء إلى النفوس لكي تصبح مطمئنه حتى
تكتمل بهجة الصحو .
أمسكت الزوجة بذراع زوجها وبدآ يخطوان معا عدة خطوات قد حفظها الزوج على
ظهر قلبه وعندما توقفا في ذلك المكان وجد الزوج ماء الوضوء،حيث حليمة التزمت
بوضعه قبل ذهابها للنوم, ودون أن يلامس جسده الأرض بأستثناءقدميه،عندها.....
راح يكمل وضوءه ، رمقته زوجته بنظرة إحترام وانصرفت حليمة خارجة من الغرفة
حين شاهدت زوجها قد شرع بالصلاة.
في حجرةٍ ملاصقةٍ لحجرةِ زوجها  حيث تكاد تسمع مراسيم صلاته  دخلت
حليمة تنظر ، ثمة فتاة تغط في نومٍ عميقٍ وبقربها فتى صغير لم يتجاوز السادسة
من عمره ،يرقد على فراشه, نظرت حليمة بعيون امتلأت شفقة وحنان باتجاه
الفتاة ثم استدارت لترجع غطاءاً إلى سابق عهده بعد أن أزاحه عبث الفتى لكي
يكمل نومه،خشية أن يوقظه برد الشتاء...اقتربت حليمة من الفتاة وانحنت عليها
وراحت تهز جسدها الدافئ برفقٍ ،استيقظت الفتاة مبتسمة حين شاهدت وجه
امها... أدركت حينها الفتاة , إنَ الصباح قادم ولابد أن يكون فطور الأب في متناول
يديه ، بعد أن ينهي صلاته .
أنهى الرجل الضرير صلاته وأتجه يقترب من جدارِ الحجرةِ وراح يتحسسه’ بيده
،عندئذ أيقن انه في مكانه الصحيح ، جلس مستندا بظهره على الحائط , ثم بدأ
بإخراج مسبحته من جيب ثوبه العلوي وراح يداعب بأصابعه حباتها....عاد صرير
الباب الخشبي من جديد وعادت معه حليمة وهي تحمل طبق كبير بين يديها
،تقدمت وأمام زوجها وضعته.
دخلت تلك الصبيةالى مكان جلوس الأب , تحمل بين يديها إناء قديم ممتلئ
بالجمر,يكاد وهجه يضيء وجه الفتاة ، وضعت الفتاة إناء الجمر أمام الأب .
شعر الأب بالدفء ، حينها استدار ناحية طيف الفتاة وقال: بوركت يابنيتي ،أشعر
بالدفء عندما تحضرين وأنت حاملة هذا الجمر.
راحت حليمة تقرب الطعام المتواجد في الإناء الكبير من متناول يد زوجها قائلة:
- هل ترغب ..بتناول "الدهن الحر" أم هذا البيض المسلوق؟
لم يكن في حيرةٍ من أمره فيما سوف يختاره’ .. إذ انه’ أدمن طعاماً يتناوله كل
صباحٍ منذ أن أصبح من سكان القرية , حيث أن طعام الدهن الحر؛كما يطلقون
عليه سكان الريف ,هو الغذاء الذي يمنحه النشاط والحيوية ، وخاصة انه فصل الشتاء
أنهى الرجل تناوله لطعامه حتى أسند ظهره على الجدار ,وراح يرتشف الشاي
من  قدح بين أصابع يديه وهو حذر من سخونة المشروب.
علا طرق على الباب الخشبي العتيق, الموجود في فضاء البيت الخارجي، جاعلاً
الرجل الأعمى يتساءل من يكون القادم في هذا الوقت؟! إذ لا أحداً يحضر والسماء
هذا حالها إلا لأمر هام , فما قولك ياحليمه ؟
أدركت حليمة , لابد لها من النهوض , دفعت بجسدها نحو الأمام تحاول النهوض ,
مما جعل خيوط " العصابة " التي تشد بها رأسها ،تتحرك في اتجاهات عدة وكأنها
فرس تريد أن تتهيأ للانطلاق في مضمار سباق .... حليمة وهي تحاول اجتياز
المسافة التي تبعدها عن الباب الخارجي للبيت , بدأت الأفكار تهاجم تفكيرها ...
من سيكون خلف الباب ؟
لأنها تدرك قسوة الأيام وما تحمله من مفاجآت,هي تعرف – رغم بساطة الحياة
التي تحياها مع عائلتها –أن الحياة قد تطرح شيئا مشوها يحول حياتهم إلى
جحيم لايطاق.
نادت حليمة :من القادم ...من يكون خلف الباب ؟
صوت رجل من خارج البيت : أنا .... أنا ياخاله .
قالت : عرفت’ الصوت ,إنه فاضل .
أبتسم فاضل لرؤيته حليمه وهي تضع ابتسامه على شفتيها,أحس بصدقها,لأنه
كان يدرك دائما امرأة حنونة رغم كونها زوجة لأبيه.
قال فاضل :نعم ياخاله..أدركني بعض المطر وأنافي طريقي إليكم .
دخل فاضل ,وبعد أن استفسر عن وجود أبيه,أشارت له حليمه نحو مكان وجوده
جاء الصوت من داخل الحجرة: من كان ياحليمه ؟
قالت حليمه :انه فاضل ياأبافاضل.
-عمت صباحا يأبي.... قالها فاضل وهو يخطو بإتجاه باب الغرفة .
مد أبو فاضل يده نحو ولده,رغبة منه بالجلوس قربه قائلا:
- تعال بقربي .
اقترب فاضل وأمسك كف اليد الممدوده وراح يقبل ظهر الكف,عندما أحس أبو
فاضل بشفاة ولده تطبع قبله على كفه, قال:بارك الله بك ياولدي ...اجلس .
تناول فاضل طعامه عندما دعى والده الى ذلك ,فيما راح الأب يفكرفي سبب
لحضور ولده في هذا الوقت المبكر ,وفى يوم ممطر كهذا...أيقن فاضل أن أباه في
حيرة من أمره,عندما رمقه بنظرة,لذلك حاول جاهدا أن ينهي طعامه,مسرعا في
ذلك,رغم انه كان جائعا نتيجة لبرد الشتاء والمطرالذي تعرض اليه ، حاول فاضل أن
يبدأ الكلام ,ولكن الأب سبقه قائلا:
- لا أظن أن مجيئك في يوم كهذا رغبة منك,فقط لرؤيتي ,رغم اني أعرف مشاعرك
نحوي ...اني أعرف أن للأنسان قوة وطاقه ولكن ..قوة الأنسان لايمكن أن تتجاوز
قوة السماء ....أظن أن الأمر هام ؟
ابتسم فاضل قائلا: لاتصعب الأمر ياوالدي ...ان جل الموضوع هو أني كنت قادما
اليك ثم وجدت نفسي بين طرفي طريق ,أما السماء فقد بدأت بالمطر ,فكنت بين
خيارين ,اما أن أرجع ...أو أقدم عليك .
قال أبو فاضل :فأخترت القدوم ...اذن قل سبب هذا القدوم .
قال فاضل: بعض الناس تحاول عبثا ودون تفكير أن تجعل أرزاق الآخرين على جانب
كبير من الضياع . .....أظن أن الرزق هبة من الله, ولايمكن لأحد أن يمنع هذه الهبه
من الوصول .
قال أبوفاضل :ولايمكن ...وان حصل ، فلوقت قصير .. ولكن قل لي، هل نالك
شىء يضر فيما قلته ؟
قال فاضل : ان ابن أخ ,لصديقك الحاج ياسر ، يقف معترضا لطريق الآخرين العائدين
من الهور ، ويمنعهم من ارساء زوارفهم قرب الضفه ...بالأمس اشتكى منه
شريكي في الصيد ,وأقصد موحان ,وسبقه بأيام ضيول ،وهكذا نحن .
اعتدل الأب في جلوسه، ثم قال :فاضل ...دعني أفهم الموضوع خطوة بخطوة
..أيهما من أولاد حميد؟
قال فاضل : انه الأصغر ,انه راضي ...يعتقد أن لرسو الزوارق تأثير سلبي على
شباك الصيد التي يضعها قرب الضفه .
اختلس الأب لحظات من الزمن للتأمل ,ولكنه لم يمنع نفسه من التفكير ، اذ راح
يحدث نفسه حديث خفي قائلا:
أظن أن الوقت قد حان لتصحيح وضع قد يصبح طريقه شائكا لو ترك دون حراك
عندها يكون من الصعب اجتياز هذا الطريق ، سيما وأن شجار مثل هذا لابد أن
يحصل يوماً .. وأظن إنه قد حصل .. ألأجدر بي أن أبعث الى صديقي الحاج ياسر
لعلني واياه نجد الحل .
نهض فاضل ووقف بين يدي والده ...
قال الأب : بعد طلوع الشمس ,اجعل الحاج ياسر على علم برغبتي في رؤيته.
عادت حليمه لتجد زوجها يجلس بمفرده ,غارقا في تفكيرهي تجهله ...أحس أبو
فاضل بخطى قادمه قال: من حليمه هنا ؟
قالت: نعم ياابافاضل.
قال لها :
-ليعمل حمدان على تجهيز موقد النار في "الربعه" .
استغربت المرأة من طلب زوجها هذا....قالت :هل ترغب حقا بالجلوس في ذلك
المكان رغم برودة الشتاء والأرض مختنقه بمياه الأمطار ؟!
قال أبو فاضل بثقة: أجل ، لأنني على موعد مع الحاج ياسر ، اني أعلم سرعة
قدوم هذا الرجل .
حمدان شاب تربى في بيت أبي فاضل ، كان فتى غر عندما تركه أباه أثر وفاته
حينها تكفل أبو فاضل معيشته .
يكمن عمل حمدان اليومي في اعداد القهوه على موقد للنار عند كل
صباح...حين جلس حمدان هذا الصباح , بدأ بتهشيم حبيبات القهوة الشقراء
المائله للحمرة بقضيب حديدي ثقيل بالنسبه لذراع اليد , ولكن بحذر شديد
واتقان,حيث كان يحاول أن يجعل القضيب الحديدي يخترق فوهة الأسطوانه
المسماة"الهاون" , محدثا ضربات أيقاعيه,يكملها عادة بطرق على حافة الهاون
يصدر عنه صوتا يشبه قرع الأجراس في الكنائس,وكأن ما يحدث هو دعوه
لمراسيم شرب القهوه .
اقترب أبو فاضل من باب "الربعه" المنخفض ,وكأن مصممه أراد من الداخل أن
ينحني , ولكن أبافاضل لم يكن لينحني اذ كان يدخله بطريقة ,وكأنه يزحف
زحفا.....بدأ الرجل الواصل لتوه مدخل المكان بالنداء قائلا:
- حمدان قم وانجز عملك .
قفز حمدان من مكانه وأنجز عمله ....أبو فاضل الآن في مكانه الذي اعتاد الجلوس
فيه ,عندما استقر به الجلوس ,اتجه بوجهه ناحية حمدان قائلا: ياحمدان أشعر
..انك لم تكمل عملك لحد الآن .
حمدان قرب الوقد قائلا:ابشر ياعم ,لقد أعددت القهوة قبل طلوع الشمس ,ولكن
الذي تسمعه من طرق هو تحضير لقهوة المساء .
قال أبو فاضل وهو يمسح لحيته الموشحة بالبياض بكف اليد اليسرى:
-أحسنت ,اذن أعطني فنجانى من القهوة ,حتى....حتى أتمكن من تدخين
سيجارة التبغ خاصتي .
طرق حمدان فنجانين فارغين كانتا في يده محدثة صوتأ ناعم يجعل الرجل الضرير
يتهيأ لمضمضة القهوة ‘ نهض حمدان مقتربا من الجالس وراح يسكب له القهوة
في فنجانه ,واحدا تلو الآخر .
الآن...الحاج ياسر في طريقه الى دار صديقه الذي دعاه , انه يشعر دائما بأنه
صديق حميم ,بل يكاد يكون صديقه الوحيدلأيام الشباب وهم الآن يقتربان من
مرحلة الشيب ,ذلك الشيب الذي إعتمر به الرأس وبدأ يطرز اللحى .
الحاج ياسر يكاد يقترب من دار أبي فاضل ,اتجه نظره الى الدخان المتصاعد من
ذلك المكان والذي طالما عشقه ....يتطارح فيه مع صديقه الأفكار , ويضحكه كثيراً ,
ثم يحتسي فنجان قهوة أو أكثرمن التي يعدها حمدان ........كل هذا بمثابة العمر
الجميل بالنسبة له .
كان يخطووهو يشاهد الدخان المتصاعد يعلو بعد أن أستطاع النفوذ من الفتحات
العلويه لسقف "الربعه" .
في داخل "الربعه "...كان حمدان منشغلا بعمله ,والرجل الأعمى يستلذ بتدخين
سيجارته , فإرنفع صوت نداء من الخارج: يا أبا فاضل ...... يا أبافاضل.
انتبه أبو فاضل للنداء ,فهو يعرفه ,عندما يصيح بأعلى صوته...انه الحاج و ولقد
حضر.
أوعز لحمدان بأستقبال القادم ..لم تدم مدة الأنتظار طويلا,بل الحاج ياسر,
وكعادته عندما يحضر, فأن الفكاهة تتقدمه خطوة .
نظر الحاج الى الجالس ,وراح يتمايل برأسه الى الجانبين , ثم قال: لابأس عليك
ان كنت لاتزال حيا..... علت ضحكة من ضحكات الحاج.... ثم أردف قائلا: ظننت
في حينها عندما أخبرني ولدك فاضل,انني أجدك في عداد المحتضرين لكنك تبدو
كأفعى صحراء تقاوم الصعاب .
اقترب الحاج وألقى السلام: السلام عليكم.....أجاب الرجل الجالس,وفي صوته
حشرجة , حين رد السلام , اتخذ الحاج مكانا له قرب صديقه وبدا قائلا:
- كيف الحال أيها الرجل الطيب ,أي أمر هام ذلك الذي جعلك ترسل لي رسول
والنهار على وشك أن يبدأ؟!: انشاء الله أن يكون قدومي على خير
وبعد أن أكمل الحاج شرب فنجانه الأول .........أردف الحاج قائلا :خيرا انشاء الله
،وبمعضٍ شديدٍ قال أبو فاضل:
- من أين يأتي الخير ؟!
نظر الحاج أمامه,كأنه لايجد جوابا يقوله, لكنه يحاول العثور عليه.....وبأستغراب
قال:
- من أين يأتي الخير!! يأتي الخير من الله وأنت تعلم ذلك.
وبسرعة في كلامه.قال الحاج: وما بالك بعبادٍ قد بدلوا الخير شراً ؟!
وبهدوء يتخلله التوسل ,قال الحاج: يا أبافاضل...افصح عن الذي تخفيه إن كنت تريد
الراحة لي .
وبنفس الامتعاض عاد أبو فاضل يقول :
- دع ابن أخيك يبتعد عنا بشره الى أقصى مكان .
قال الحاج برويه: بالله عليك إلا أفهمتني .
أطرق أبو فاضل قليلا ,ثم بدأ يسرد حديثا,وصديقه الحاج يسمع ,وحينها بدا
مستغربا والحيرة باديه على وجهه..... ملامح ذلك الوجه تكشف الأسى الذي
دخل في نفس الحاج ... ماذا سوف يقول , وماذا سيفعل, تلك هي الأفكار التي
بدأت تتقاتل في رأسه .
نظر الحاج بوجه صديقه المتكلم ...وبدأ متحدثا مع نفسه : لولا العمى الذي أصاب
عينيك لكنت الآن في فضيحة الخجل , حين تكون تراني أتخبط في شباكها.....
بعد أن غادر الحاج, انخرط أبو فاضل في دوامة دائرة اللوم ، بعد أن تمادى في
ايضاح قلقه بشأن ما حدث وكم تمنى أن يكون الحاج مدركا لما قصده من حيث انه
كان بحسن نيه.....لكن أبو فاضل تذكر كلمات الحاج قبل أن يغادر حين قال: اطمئن
, كل شيء سوف يكون على مايرام , عندئذ أيقن انه ذلك الصديق الذي عرفه .
حين بدأت الشمس ترتفع في السماء ,وتحاول أن ترسل أشعتها,ولكن بخجل
وهي خلف الغيوم ، خرجت )حليمه( من دارها ولكن الى أين ؟ .
كانت قاصدة فيها دار ذلك المزارع الذي يعمل في حقول الرز خاصتهم ..رفعت
رأسها, وعينيها ترقب السماء...تمتمت قائلة :
 أن الصحو لم يزل بعيد .
فأمالت بوجهها عن تلك السماء الملبدة بالغيوم , ثم بدأت تبصر من بعيد ذلك
المزارع"أبا كامل" , حيث بدى مشغولا بأمر ما , اقتربت حليمه من فناء داره ,
وراحت تراقب ما يفعله هذا الرجل .استغلت لحظات انشغاله في اصلاح ما أفسده
الدهر لتشاهد حالة من البؤس تغلف محيط بيته, لكنها تكاد تكون حالة كل البيوت
.
بدأت حليمه تردد كلامامسموعا مع نفسها قائلة:متى يتوقف هذا الضياع , ولماذا
هذا الألم ,بيوت من طين, سقوفها من القصب وغدر الأيام كثير.
كنت أنوي اخبار هذا المسكين بضرورة أن يجعل محصول الرز في مأمن من خطر
الـ.... .
لم تكمل كلامها.... نظرت حليمه ثانية نحو السماء,فأردفت قائلة: الأمطار...نعم
,فالسماء لازالت تحمل الكثير.
الشمس لازالت مستمرة في الأرتفاع ,وباصرارعجيب,رغبة منها في أن ترسل
أشعتها رغم كثرة الغيوم والتي تحاول أن تفسد تلك الرغبة.
وكرغبة الشمس هذه ، فإن رغبة أخرى كانت تمارس كل صباح في مكان قريب
من بيت ابي فاضل .. ثمة لقاء منعقد في مضيف الشيخ ريسان .. يتم عادة في
موعده المقرر له في كل صباح,وتحت مضيف القرية الكبير,أو كما يسمونه رجال
القريه,مضيف أبا كاصد, كان قد ورثه الشيخ ريسان عن أبيه,كما هي الزعامه,
لكنها زعامة من نوع آخر,اذ لم تكن منفردة , إذ يتشارك مع الآخرين أحاديث ,
تفضي الى إتخاذ القرار , أ’خرى الى إيجاد الدعة في النفس .
اجتمع كبار السن , أحاديث تلوكها الألسن ,أكثرها مزاح , إذ لاشيء يبدو مهما
هذا اليوم ... ابتدأ بالكلام الشيخ كاصد قائلاً الى أحدهم: يا أباسلمان.
 أسمعك يا أبا كاصد.
 ما رأيك بأحدِهم , لم يتم على وفاة زوجته أربعون يوما, وهو يحث الخطى باحثاً
عن زوجة له.
ضحك أبو سلمان وقال: قبل الخوض بحديث عن صاحب الشأن الذي تقصده
بكلامك هذا ...أظن انه
لا يمكن الأستغناءعن النساء ,وبيت بلا نساء ,كأنه بستان نخل جميع أشجاره
فحول .
تعالت ضحكات المتواجدين ....فيما راح أبا سلمان يكمل حديثه قائلا:
 ثم إن صاحبك الذي تقصد,على شفا حفرة القبر..... ومَلك الموت ,يجلس صباحا
ومساءا عند رأسه.
اهتز بدن الشيخ كاصد لضحكة أطلقها جراء سماعه لقول أبي سلمان,ولكن تلك
الضحكة قد ضاعت بين ضحكات الآخرين.
نظر الشيخ كاصد  بأتجاه ذلك الواجم ,والذي لم يشارك الآخرين ضحكاتهم  وهو
يظن انه لايتأثر بمزاح من هذا أو ذاك ,فكثيرا ما يصل الأمر ذروته ولكن بدون ضغينة
تتكون بين الحاضرين.
أراد اشيخ ريسان أن يخفف من شدة المزاح الدائر ,اذ ألقى تساؤل نحو أبي
سلمان :
 أنت كثير الأتيان بمثل كلامك هذا ,وربما أكثر منه ... أني أخشى أن يكون
صاحبك , الحاج ياسر قد أصابه الزعل.
نظر الحاج بأتجاه الشيخ كاصد رغم كدره  ثم قال:أنا تعودت على هرطقة كلامه
,اذن هي ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيره .
قال الحاج ياسر تلك الكلمات ثم أطرق وراح بعيد بأفكاره الشاردة الى حيث لايعلم.
انتابت الحاج ياسر حالة من الصمت , رغم سماعه الضحكات العاليه التي يطلقها
الحاضرين , كان يحاول كتم ارتيابه المفاجىء عندما تذكر أمر أبن أخيه"راضي" وما
فعله,وما سيؤول اليه هذا الأمر.
ذهب بأفكاره بعيدا ,وبدأت تقوده الى تساؤلات عديده .... بدأ يحدث نفسه : ....
كيف تمكن هذا المجنون ؟.... نعم انه مجنون !
من حاول أن يشهر خنجره بوجه أحدهم بغية القتل !!
مجنون... مجنون من يظن ان الرجولةبقوة السلاح تقاس. اذن أين ذهبت العقول؟! 
أظن ان مأساة أخي بولده قد بدأت !؟
ماذا لو تشابكت الخيوط وتاه حبل المودة مع عائلة أبا فاضل ؟
هل أستطيع أن أمسك بهذا الحبل قبل ضياعه ؟!
ثمة حديث كان يُتلا في بيت حميد بشأن ولده راضي . حين استقبلت مسامع
حميد أنباء ما فعله ولده ,لم تكن ساقيه بالمقدار الكافي من القوةعلى حمله,فهو
يعرف قوة تلك العائلة وامتداداتها ,ولو قدر لهذا الأمر أن يتسع ,فان دائرة الخوف
التي سوف تحيطه لايمكن لحميد وعائلته أن ينفذوا من خلالها.
أدرك الحاج ياسر حيرة أخيه,حين رآه لايعرف ان كان يجلس أم ينهض ...يخطو أم
يتوقف . لكنه قال عندما لمح في عيني أخيه الحاج ياسر ثمة أجوبة لتساؤلاته :
ما العمل ياأخي ؟
لم ينطق الحاج بأي كلام ,اذ ذهب نظره بأتجاه باب الحجرة التي يجلسون فيها .
ثمة قادم قد حجب الضوء النافذ من فتحة الباب ..انه راضي , عندما ألقى السلام
على الجالسين ,لم يرد أحد ,بل نظرة استهجان وعدم رضى شديدتين من عمه
الحاج ياسر.
قال الحاج : أظن ان السلام يرد على أهل السلام !
جلس راضي وقال برويه :وهل أنا من غيرهم ؟..رغم أني لاأعلم شيء .
الحاج ياسر : لاتعلم ...اذن اعلم انك الأسوء,من دون الناس أنت الأسوء .
قال راضي بأستغراب : ياعم ,لماذا أنا الأسوء؟ وما السوء الذي عملته... ياعم أنا
ابن أخيك,ولو فعلت السوء فانه يأتيك أيضا.
قال الحاج ياسر : وهل تظن أن سوئك لم يصلني بعد ,لا لقد وصل ياأبن أخي
,عندما بدأت بضرب رأسك الصغير هذا بصخرة صلدة وكبيرة.
صمت الحاج ياسر قليلا ثم ,وكأنه يحاول أن يتذكر عبارات التوبيخ....عاد ثانية وقال:
 لماذا عائلة أبي فاضل ؟ أتعلم من هم ؟ هولاء من تخشاهم الرجال ,فضلا عن
احترام الناس لهم ... لأنهم شجعان .
سوف أقول لك شيئا ان كنت تجهله.....يكفيهم "فهد" . هل تعرف فهد ياراضي؟
فهد عم فاضل ، الذي حاولت يدك قتله .
نظر راضي بوجه عمه تارة وأخرى بوجه أبيه...لكن فرائضه ارتعدت وباتت الأرض
وكأنها تموج تحت قدميه عندما سمع الحاج ينطق اسم فهد....اقترب الحاج منه
,عندما لاحظ بداية انهياره, أراد أن يشد اللجام على هذا الحصان الجامح, والذي
طالما كان ولوقت طويل دون ترويض , نظر راضي بوجه عمه ,ثم قال,وفي صوته
خفايا أ سرار: إنكم لا تعلمون شيئاً .
كان لديه صراع غريب لايستطيع وصفه ,هو مزيج بين الخوف وكبرياء النفس الذي
يدفعه بأتجاه العزة, وإن كان طريقها يتخلله الأثم أحيانا.
تذكر راضي كلمات الحاج ياسر وهو يجلس على ضفة الهور, عند نهايته وعلى
مقربة من بيوت القرية .
تجول راضي بنظره في تلك البقعة من الأرض , ثم بدأ يعيد  ما حدث بينه وبين
فاضل  كشريط من الذكريات , عندما استطاع أن يشهر خنجره ويتقدم هاجماً نحو
فاضل , الا أن شريط الذكريات قد انقطع بفعل همهات بعض الماره ,حينها نظر نحو
يده فوجدها قابضة على مقبض خنجره...عندها قال وهو يتحدث مع نفسه: كل
هذا بسببك يافهد,بسبب اسمك... أجل كل ما فعلت حتى يذكرا سمي أمامك ....
ولكن أين أنت؟
في ديار أخرى , تبعد مسافة يومين عن القرية التي يعيش فيها أبا فاضل ,كان
شقيقه فهد يمكث هناك,ضيفا على صديقه "سعد آل منصور" .
منذ أيام وفكرة شد الرحال تراود نفس فهد ,حيث ازداد شوقا لرؤية أخيه ,أذ لم
يكن في حسبانه انه يستطيع البقاء أكثر من سنة دون رؤية أخيه ,ولكنها نفسه
الثائرة...الحرة التي لاتطيق القيود.
مع بزوغ الشمس ,وحين أعطت الضياء الأول لها ولتستوضح معالم البقعة التي
يقف عليها فهد ,راح يسرج فرسه الأسود ذي الغرة البيضاء .
وبينما هو منشغل في ذلك ,أحس بوقع خطوات أقدام قادمة نحوه,نظر
فهد...فوجده ذلك الصديق "سعد", يقترب باسما ,وحين وقف بجانب الفرس من
الجهة الأخرى ,قال له فهد ويداه تعلق الركاب:
 يبدو أن صبرك قليل ,ألم أقل لك ...لا تخرج في أثري.
وبصوت منخفض قال سعد: لم أستطع.....ليس وحدي في قلة الصبر , فاِن أحدهم
يشاركني .
قال فهد : الى من ترمي ؟!
قال سعد وهو يشير بعينيه : أنظر خلفك انها قادمه .
امرأة عجوز, تتوكأعلى عصا مقوسة كظهرها ,قد أخذ الدهر منها مأخذه.....جاءت
وبخطى بطيئه نحو فهد ,حين رآها ترك كل شيء وذهب باتجاهها,مستقبلا اياها
,ممسكا بيدها ,نظر في وجهها قائلا:
 أنت متعبة, لم يكن بوسعك المجيء.
المرأة العجوز تنظر بوجه فهد ,تتفحصه......وفهد يقود المرأة ويقترب بها ,حيث
ولدها سعد يقف ينظر اليهما ,وضعت المرأة يدها على ظهر الفرس رغم قصر
قامتها ,قائلة:
 كلمة ياأماه هي التي قادتني اليك ,وأنت كثيرا ما قلتها ....كما يقولها لي ولدي
سعد هذا .
قال فهد : وكيف لاأقولها ...وأنت التي قضيتي ليال طوال ,تداوين جراحاتي .....
أنني لا أتذكر كيف وجدني سعد في الصحراء بين الحياة والموت ,ولا أتذكر كيف
حملني ....لكني أتذكر وجهك وقد بدى متعبا لكثرة السهر ...لو كانت أمي على
قيد الحياة ,لاأظنها تفعل أكثر من فعلك .
أزاحت المرأة يدها من على ظهر الفرس ثم وضعتها على كتف فهد وهي تقول :
 هل نويت الرحيل ؟
ابتسم فهد قائلا: أنت تعرفيني !
قالت المرأة : أعرفك , طير حر , روحه تتخاصم مع المكان بأسرع وقت ....آه ياولدي
, ما أسرع الرحيل لديك ,ولكن .... لاتجعل غيبتك عني طويله ,فإني أرغب وجودك
يوم يأتي منادي الموت يدخل باب داري .
لم ينطق فهد بأية كلمة بل راح يمسك بيد المرأة العجوز وأنحنى برأسه يقبل تلك
اليد والمرأة تقول
 في أمان الله.
وبعد عناق طويل مع ذلك الصديق سعد ,كان آخر عمل قد فعله فهد قبل أن
يمتطي فرسه وينطلق بها مبتعدا عن بيوت القرية نحو ديار الأهل .
حوافر فرسه تضرب الأرض وهي غائرة في عمق الصحراء ....لم يسلك فهد طريقا
ذا معالم واضحة , خشيةأن يضل طريقه بل سلك الأرض كلها ,لأنه خبرها تماما
كما هي .
ماذا يريد في تجواله الطويل هذا ؟ هو لاينشد مكانا بعينه ,لأنه يعرف أن كل
الأماكن وأينما حل فانها متشابهه , أرض متعبه وساكنيها متعبين ومنذ أمد طويل
وهم في أنين.
فهد قد ذاع صيته وأصبح كل لسان يتداول ذلك الصيت .لم يكن ليدعي انه حكيم
ويدور في النواحي ليعطي الحكمة والموعظة,بل كان فارس أحلام , في أحيانٍ
كثيرةٍ كان يحقق الأحلام للأخرين , اللذين ليس بمقدورهم أن يحلموا .
كم من مرة قطع الطريق على السارقين ,اللذين يمارسون سطوتهم على الفقراء
ليسرقوا منهم سنوات الحياة التي أعطاها الله , ثم يحاول أن يعيد إليهم ما فقدوه
من ثقة الأيام .
وكم من مرة أبكته دموع الآخرين ,اللذين لايملكون سوى الدموع , لأنه يرى نفسه
من خلال دموعهم , ولأن أحزانه كثيرة , فان بكائه طويل , كما هي السنين
.....وحين ينظر من خلالها......لم يجد سوى الخراب ......
لازالت حوافر فرسه تعلم الأرض بآثارواضحة ,ولكن ! ....نهار شتاء بارد رغم قصره
,الا أن الطريق لازال طويل ..وهاهو الليل قادم , ولابد له أن يركن جانبا .
توقف فهد وراح ينظر بعينين اختبرهما ,ويعرف انهما لايغدران , اذ أبصر على بعد,
ثمة أحدهم يسكن هناك ,قال متحدثا مع نفسه : لابد لي من الوصول الى هناك
فالليل قادم ,وفي الليل تزداد سكينة النفس....لابد لي أن أتخذ أنيس حديث من
ذلك البيت .
يوم يمضي ونهار يوم جديد قد جاء,وفي ذات المكان الذي اعتاد راضي الجلوس
فيه ,على ضفة نهاية الهور ,وأمام وجه الماء , حيث لايوجد منافس له يجادله
الأفكار عندما يسأل , فانه يتخيل الجواب كمايحب أن يسمعه.
انبرى راضي يتساءل  عندما رآى صورة وجهه على سطح الماء الأملس ,كملمس
سمكة الشبوط ,والتي اعتاد ملامستها في بعض الصباحات الباكرة,عندما يرغب
في تناولها مشويةعلى نارحطب جذور القصب اليابسة  قائلا:
 ما الذي أريده أن يفعل لي هذا التحدي ,هل هي نفسي الهائمة التي لاتعرف
معالم الطريق...ويحك ياراضي ,تتخذ وسيلة خاطئة لتصل الى غاية....لا أدري ان
كا....نت....لا ,أنا أعرف انها.....إنهاصحيحة... عندما يحارب فهد من اجلها ,فلابد أن
تكون صحيحة...نعم الجميع يقر بأن فهد على صواب ...حتى والداي ...والدي الذي
يتعب كثيرا ...أظنه يتعب, ولكن كل ما يجنيه من هذا الشقاء يذهب عنه ,ليتخذ
طريقا لآخرين تعودوا أن يخرج الأمر منهم ليعود اليهم ذهبا براقا ...
ربما أريد التحدي لأجل والدي .....ولكن فاضل ؟! قد ناله من تدهور أفكاري جانبا
ولابد من توضيح الأمر ثم الأعتذار ..... أظن ان عرف مقصدي سوف يقبل اعتذاري
,ولكن, ماذا بعد؟
هل أترك نفسي تعيش وسط هذا الحطام الذي ألم بي ,أم أبحث عن منفذ في
وسط هذا الزخم من الشك, حيث الجميع يظن بي الظنون ...ولو تركت لنفسي
الخوض في هذه الأفكار ,فانني سوف أفقد الثقةفي هذه الحياة , انني الآن
لاأملك الامغادرةهذا المكان.
هم راضي أن يبرح مكانه الا أن رؤيته لفاضل وهو يقترب ,قد جعله يعدل عن فكرته
تلك .
نهض راضي وهو يضع ابتسامة على شفتيه ,لعل فاضل يكتشف ذلك ولربما ذلك
يجعل الطريق ممهدا لو حصل لقاء بينهم ,ولكن فاضل حاول اجتنابه ,حين اتخذ
طريقا غير بعيد عن المكان الذي كان راضي يقف فيه,الا أن راضي قد قطع عليه
ذلك الطريق ,حين استطاع أن يصل هناك.
وقف راضي أمامه ,وحين راح فاضل ينظر اليه,مد راضي يده لينتزع خنجره من
حزامه الذي يلف به بطنه, شاهرا اياه ,ولكنه لم يتحرك من مكانه , بل ظل واقفا .
لم تدخل نفس فاضل الدهشه,لأنه أيقن أن ما يريده هذا المغامر شيءآخر
.....ولكن لم يكن باستطاعةفاضل معرفة مقصده...اقترب راضي وهويحاول أن
يعطي انطباعا  في خطواته  انه لايضمر الشر ,قدماه تقودانه ,ولكن في صوته
شعور بالذنب وهو يتكلم قائلا:
 خذ ياراضي هذا الخنجر ,لو كان باستطاعتي أن أغرزه في جسدي لفعلت
,ولكنها الروح تأبى ذلك ... أما أنت .....فليكن لك ذلك.
وقف راضي قريبا وهو ينظر بوجه فاضل ,يتفحصه ,وهو يحاول أن يستقرأ ذلك الوجه
,متمنيا أن يسرق بخفاء بعضا من انفعالاته,لعل واحدة منها تبعث في نفسه
الأطمئنان وتوحي بأن المسافة قد اقتربت فيما بينهما .
قال فاضل : أتظن باستطاعتي أن أفعل ما نويت أنت فعله ,كيف أمكنك أن تقودك
أفكارك لتجعل مني أضحية غرورك ؟ .
قال راضي : لا يافاضل لاتظن بي الظنون ,أنا رفيق صباك ,ذلك الصبا الذي انقضى
ونحن لم نفترق يوما , ولكنها فورة الألم الذي يغلفني .
راح راضي ينفث ما يختلج به صدره,بعد أن أدرك أن فاضل بدأ يصغي اليه.....الوقت
بدأ يمضي وكلاهما في حديث مستمر ,أحدهما يصغي الى الآخر ,وبعد حين قال
راضي : هلم معي .
قال فاضل : الى أين ؟!
قال راضي : الى حيث أستريح من لوم أبي ونظرة عمي الحاج ياسر,وأظنهما
محقان في ذلك....دعنا نذهب الى بيتنا ....ياصديقي .
أخذ فاضل يرمق  ذلك الصديق التائب  بنظرة وهو يتمنى أن يكون ذلك الحديث
الذي سمعه حقيقيا .
عبر أزقة القرية وخلال ممراتها الضيقة,راضي وبرفقته فاضل ,جنبا الى جنب
يسيران ,أرادا الأثنان أن يوحيا الى أهل القرية والذين يشاهدونهما الآن,بأن النزاع
الذي انتشرخبره كالنار عندما تنتشر في الهشيم , قد تلاشى,وها هما الان معا
,ولكن الهدف لم يتحقق بعد,اذ أن فهد هو الآن غائب عن الأنظار ,ولايعلم اللذين ,
ممن يودون رؤيته أين هو الآن .
حين وصل راضي قرب بيت أبيه ,وقف قرب الجدار الطيني وراح من ينظر من أعلى
الجدار الواطىء وكأنه يختلس النظر كما يفعل السارق ليلا,ليتأكد من صيده .
أصاب فاضل الشك من جديد وبدأ يرتاب وهويراقب راضي وما يفعله....فاضل
يتساءل: ما الذي يريد أن يفعله هذه المرة؟!
التفت راضي ليجد صديقه في حيرة من أمره...ابتسم ثم أوضح بأن ما يفعله لكي
يتأكد,هل من أثر لوجود والده .....اذ أن راضي كان يراقب مدخل حجرة الطين
,مأوى والده ,ان كان نعلا والده على الأرض,في مكانهما المعهود أم لا.
أيقن فاضل صدق كلام صديقه ,عندما أشار راضي عن بعد الى ما يؤكد كلامه .
دخلا الأثنان الى باحة الدار ,وراح راضي ينادي على أبيه ...خرج الأب , وعندما وقع
نظره على فاضل انشرح صدره وبات أقرب الى السعادة من أي وقت مضى من
يومه . اقترب الرجل من فاضل وراح يضمه الى صدره وهو يقول : ان الله جعل
المودة والتراحم مفتاحا لكل المشاكل ,ولولا ذلك لضاع كل شيءجميل في
النفوس .
نظر حميد , الرجل البسيط , كبساطة الأيام التي يحياها , بوجه فاضل نظرة
رضى..ثم قال:
 أدخل ياولدي بيتي كما خبرتك عندما تفعل ذلك .
مع اقتراب ساعة الظهيرة  عندما بدت الشمس تأخذ مكانها , مبتعدة قليلاعن
منتصف السماء, بدأ فهد يقترب من منازل طالما عرفها وعرفته ....منازل القرية
التي يعرف بؤسها وفقرها ,وان مثلها كمثل باقي الديار في الأنحاء, وكأن رياح
الشؤم قد نثرت من علو غبار زمن عنيد, يأبى إلا أن يكون رفيق هذه الديار .
قدماه الآن تقوده نحو المكان الذي تربى فيه , هو نفس المكان الذي ولد وقضى
صباه فيه....إنه المكان الذي يسكن فيه أخاه , في ذلك البيت الذي يراه الآن .
من بعيد كان "أبوكامل" منشغلاً في عمله ,لكن "فهد" رآه , وبدأ يقترب منه ,ومع
خطوات قدميه كان يحدث نفسه : ايهٍ ياأبا كامل , هذا أنت أول من أراه ....أتمنى
لو تخبرني بخبر سعيد يثلج صدري حين ألقاك ... آه.. كم أخشىمن اللقاء بعد
فراق طويل .... أظنه طويل .
انتبه أبو كامل لذلك القادم ,وراح يتخيل حركة الجسد ومشيته على الأرض ,بدأ
لسانه يردد : من! ...اني أعرفه ....لاأصدق ما أراه , نعم انه فهد
أراد أبوكامل أن يفعل شيئا,عندها أقتحم حجرته ثم مكث لحظات من الزمن ...خرج
من الحجرة وهو يحمل بندقيته "الصليبية" .توقف في منتصف المكان ,وحين جعل
فوهة بندقيته بأتجاه السماء ,بدأ بأطلاق الرصاص ,وكأنه أراد أن يشكر الله
بطريقته ,وحتى يعلم القوم ,أن من ينتظر قدوم فهد ,فانه قد حضر. صوت اطلاق
الرصاص من سم بندقيةأبي كامل ,كان يسمع في الأرجاء , وقد دخل صداه في
البيوت المحيطة .
عندما كان أبو فاضل في مجلسه, أنه توجس في نفسه شيئا , اذ كان يعرف
غايات اطلاق الرصاص ,وفي أي الأوقات ,عندئذ قال لحمدان الذي كان بقربه :
حمدان ,انها رصاصات بشارة بقدوم شخص ما , وانها لقريبة, انهض لتعرف,من
عساه أن يكون ؟ .
قفز حمدان ليخرج ....خرج ,ولكن ما أسرع عودته فرحا ,اذقال بأعلى صوته:
البشارة ياعم .... انه فهد ,وهذا أبو كامل ,من يطلق الرصاص .
نهض أبو فاضل من مكانه يتمايل ,مد يده نحو حمدان وهو يقول : حمدان ...هل
عيونك وما رأت,محقة فيما قلته ؟ .
قال حمدان : أقسم ما قلته لك هو الصحيح .
قال أبو فاضل ,وقد ضاع منه الكلام الا قوله بصعوبة :اذن ..قدني الى حيث يراني
أخي فهد.
عندما خرج حمدان وبرفقته الرجل الأعمى ,كان فهد وبرفقته أبا كامل قد اجتازا
المسافة التي تبعد عن موقع الربعة .
تمتم أبو فاضل بأذن حمدان بكلمات وثم أفلت جسده من سيطرة حمدان ,حيث
ترك لنفسه العنان وراح يتقدم، وكأنه يعرف الطريق .
كان في وجهه اشراقة , وعلى ثغره ترتسم ابتسامة, ولربما في قلبه شوق لذلك
القادم .....لم يتمكن فهد من المشي بخطوات معتادة عندما وقع نظره على أخيه
....اذ أطلق العنان لنفسه ,فاندفع لملاقاته. لحظات من الزمن مرت والأخوين
متعانقين ,حتى صوت الرصاص الخارج من بندقية أبي كامل ,لم يقطع هذا الزمن .
من بين الطرقات الضيقة التي تخترق بيوت القرية القريبة من مسكنه ,أراد فاضل
أن يجد أقصر الطرق للوصول ,حتى يتمكن من التاكد من حقيقة الخبر الذي تناقلته
ألسن العائدين توا من مشاهدة الحدث .
بدا راضي وهو يحاول اللحاق بصديقه فاضل الذي يسبقه بعدة أمتار ,وكأنه يرتجي
منه أن يخفف السير قليلا ,حتى يتمكنا من الوصول معا ,ولكن فاضل بدأ يحثه
على السير , وهو يقول ودون أن يفقد السيطرة على معدل أنفاسه : اسرع
ياراضي ...أريد أن أصل الى المكان قبل أن يمتلأ بالوافدين .
قال راضي من خلفه , وقد انقطعت أنفاسه وراح يلهث : ماذا؟! هل أنت تخشى
أن لاتجد مكانا تجلس فيه ,أم أنك تخشى الآخرين ,لرؤيتهم انهيار عاطفتك أمام
عمك فهد !! .
قال فاضل : وهل تظن العم فهد لايستحق أن أظهر له مكنون العاطفة الصادقة ؟.
قال راضي : لا , لم أقل هذا ... بل ما أريده منك الآن أن تظهر عاطفتك نحوي
,ليس كثيرا ,بل القليل ! لأن أنفاسي تكاد تنقطع ! .
التفت فاضل نحوه وهو يبتسم ,قائلا :اسرع ولا تتكلم كي لاتنقع أنفاسك.
وسط الحاضرين ,وجد فاضل طريقه نحو العم فهد ,فيما ظل راضي واقفا عند باب
الربعة ,يتأمل ذلك الجالس بقرب أبي فاضل , انه الذي يرتدي ملابسا تميل الى
السواد ,ذلك الذي يضع على رأسه حجابا ,يكاد يغطي شعر رأسه بقدرتهما على
استيعاب كل زوايا الصورة التي تكون أمامه .
بدى راضي مترددا, هل أتقدم لمصافحته ....مثلما فعل فاضل وقد سبقني ,أَم
أنتظر حتى يدعوني اليه , فهو الآن يمكث في الديار .
حين أقبل الليل, جلسا متقابلين , بينهما موقد من النار ,يكاد شعاع ألسنة لهبه
تضيء المكان وينعكس على وجهي الآخوين وبقربهم ذلك الصديقين حيث راضي
, يجلس قرب فاضل ,يستمعان لحديث غير كل الأحاديث,حدث ذلك بعد أن انفض
الجميع ولم يبقى سواهم .
سأل الأخ الأكبر : كم مرة اشتقت بها الى الديار ؟
أجابه فهد :كثيرة هي المرات , ولكن !
الأخ الأكبر : ولكن ماذا يافهد ؟
قال فهد :هل تناهى الى سمعك يوما ,ان الأنسان قد يكره أحيانا على فعل شيء
رغم أنفه , فما بالك بالذي يبحث عن حقيقة الأشياء ,وتلك الحقيقة مبعثرة في
أنحاء شتى , وربما هي مختفيةفي طيات الألم الذي يغلف أجسادنا المتعبة
....لذلك ياأخي , فأنا دائم الذهاب في كل الاتجاهات .
ان في هذه الأرض سرا,أحاول جاهدا أن أعثر عليه ,ربما أجده ... وربما لا ,أو يأتي
غيري يحالفه ايمانه بوجود السر فيجده .
لو أردنا أن نملك الواسعة , لابد لنا أن نعرف السر .
في خضم الحديث الجاري الآن , وجد راضي نفسه بين نارين ! هل يظل على
صمته , دون الخوض في ما يختلج صدره أم يحاول أن يخترق هذا الصمت , رغم
علمه بأن هذا الاختراق ينتج عنه أشياء وأشياء ,هو لايعرف ماهيتها .
التفت راضي نحو فاضل ,فوجده منشغلا هو الآخر بحديث , يمكن معرفة أوله
,ولكن وجه الشبه مع آخره, يختلف تماماً .
كان راضي يتمنى أن يذكر فاضل إسمه أمام عمه فهد,وأن يتناوله هذا الحديث
الجاري بشيء من الذكر .
وبينما كان حاله على هذا المنوال من التمني ,أدركه فاضل حين سمعه ينطق
باسمه قائلا :
 ياعم ...هذا راضي , حيث ارتضى لنفسه أن يكون خصما لي .ثم ارتضى بالضرر
الذي سوف يلحق به من جراء الخصومة رغم أن غايته ليست كوسيلته,
ولاتشبهها, لكنه أدرك أن التحدي لابد أن يمر عبر طريق التحدي .
أراد راضي الوصول اليك ,وتلك كانت غايته ,وكنت أنا الوسيلة.....هو اتخذ طريقا ,
قليلون من سلكوه لتحقيق غاياتهم النبيلة .....أظن أنه كان يدرك أنه سيفوز ,
وهاهو الآن يجلس بقربك .
ابتسم فهد بعد أن انهى اصغائه بحديث فاضل , ثم قال :
 لماذا ياراضي كل هذا ؟ رغم اني أقدر لك كل هذا ....اني أقدر لك اصرارك ياابن
أخي ... أعرف أنك ابن حميد الأصغر .
صمت فهد قليلا بعد أن أتاه حمدان بفنجان قهوة ...... أنهى فهد شربه,ثم أكمل
حديثه قائلا :
 اعلم ياراضي, أن طريق معرفة ما تفكر به العقول ,طريق صعب , وسالكه يتعب
كثيرا ان أراد السير فيه.اني أحاول أن أخترق الأفكار ,كما لوأنني كنت قد ضربت
اناء قد امتلأ بأحجارمن الماس فتناثرت تلك الأحجار ,ثم أسال نفسي كيف يكون
الأختيار فكل ألألوان متشابهة, وصغر الحجم كما هو كبره ليس قياسا  أحاول أن
أجد الجواب........... لقد مررت بقرب كل الأشياء ,ثم أستطعت أن ألمسها
,وحاولت التأثير فيها , دونها ما أنزل الله , لذلك أستطيع  وبشيء من المقدرة 
التعرف على ملامحها عندئذ أستطيع القفز فوقها ودون الخوف من الوقوع في
شباكها .
ولاية الناصرية 1930
مع بزوغ الشمس وارتفاعها فوق الأفق قليلا , وعند بوابة أحد الخانات ,التي
تستخدم لايواء حيوانات عابري السبيل , والتي تقع عند أطراف المدينة من جهة
الشرق ... ترجل "سعد آل منصور " من على ظهر جواده , وهو يرتدي ملابسه
التقليدية,
عندما كان ينوي الذهاب برحلة  تشبه التي يقوم بها الآن  الى المدينة.
كان ملبسه "الصاية" وعبائة أحاكها أمهر من عملوا بهذا المجال....يزين رأسه
بيشماغ أبيض موشح بنقط سوداء صغيرة.
تقدم عامل الخان  بعد أن أمره مالك الخان  وأمسك بلجام الحصان ,ثم قاده الى
حيث يمكن ايوائه.
في طرقات المدينة , وعندما بدأت حركة المارة تزداد , بدأ سعد يتخذ طريقه الى
ذلك المقهى المطل على النهر والذي يفصلهما عن بعضهما طريقا غير معبد, ذلك
الطريق المؤدي الى السراي ,حيث متصرفية لواء الناصريه.
في ذلك المقهى الذى يرتاده أعيان المدينة وشيوخ العشائرالممتدة عند أطرافها
 وجد سعدآل منصور قدميه عند مدخلها , راح ينظر بأتجاه القهوجي, وبدأ يردد
اسمه قائلا : حامد.... ياأبا نوفه
استدار القهوجي ببطأ , وهويظن أنه يعرف هذا الصوت , وعندما نظر ناحية مدخل
القهوة ,أصبح في ذهول , ولكن لفرحه بقدوم هذا الصديق .
قال حامد وهوفي حالة اللا تصديق : من ؟ سعد آل منصور ! بشحمه ولحمه .
ضحك سعد , وتقدم نحوه ,الا أن حامد كان أسرع منه في الوصول اليه..... عانق
سعد حامدا بحرارة, وبعد اأن تراجعاقليلا الى الوراء .
قال حامد : غيبتك طالت ياسعد , أيها الصديق ....آخر زيارة كانت لك , وبرفقتك
فهد, في الصيف.
أشار حامد لضيفه بالجلوس و بيده قائلا : سوف آتيك بالشاي .
وبعد برهة من الزمن ,حامد قرب سعد ,يخوضون في حديث .....قال سعد : كيف
حال الناصرية ؟
قال حامد بعدم اهتمام : مثلما تركتها آخر مرة ,لاشيء يستحق الذكر, باستثناء
ثروة المتصرف ازدادت ليرات من الذهب , بظل وجود ناصر العاصي .
قال سعد :هولاء سيظلون يفسدون ما استطاعوا مادام الرقيب يغط في نومه....
ولكن قل لي , أين اصبحت شجاعتك ,وكلامك الذي كنت تقوله بأستمرار.
ضحك سعد عاليا , حامد ينظر اليه بأستغراب .....قال سعد: كنت دائما تقول
سوف أوقف زحف بريطانيا العظمى ...سوف أوقف زحف بريطا....
عاد سعد للضحك ثانية, ثم قال : أنت تعترف أنها بريطانيا العظمى , ومع ذلك تقول
ما كنت تقوله .
نظر حامد بوجه سعد وهو يبتسم ,ثم قال : لاأدري ما أقول !
قال سعد : لا بل قل , قل أنك كنت أكثر شجاعة...
قاطعه حامد قائلا : ولازلت شجاعا .
قال سعد : لازلت ! وأين أنت ؟ والقوم نهبوا الولاية , وصرخات الجياع تتصدر مطلع
كل يوم ,فيما راحت بطون بعضهم تصيبها الأكلة .
قال حامد : ماذا عسانا أن نفعل , وأي واحد منهم نحارب ,فهم كثر .
ولكن فجأة ...خرج سعد بنظره خارج المقهى ,اذ أبصر عربة ربل يجرها حصان
أبيض,تتوقف أمام المقهى,لعارض ما في الطريق .
ثمة امرأة تجلس في المقصورة, وقع نظر سعد عليها ,عندما كان جانب من وجهها
قد انكشف له من خلال نافذة العربة, والذي يطل على القهى.
قضى سعد تلك اللحظات صامتا , وأكتفى منبهرا بذلك الوجه, اقترب حامد من أذن
صديقه سعد ,هامسا فيها بكلام :تلك المرأة هي ابنة المتصرف . لكن الصديق
كان في عالم آخر , وبعد اختفاء أثر الفتاة......نظر سعد الى حامد قائلا :ماذا تريد
ياحامد ؟ .
ابتسم حامد , وقد غير نبرة صوته حين قال :ماذا أريد ؟!! ..... أريدك أن تأتي معي
الى البيت لتذوق طعام ابنتي "نوفه ".... ثمة ديك في البيت, يصر على ازعاجي
كل فجر , أريد أن أجعله طعاما لغذائنا هذا اليوم .
قضى سعد دقائق من الصمت, في مكانه يجلس ,بعد ان غادره حامد ,حيث
انصرف لعمله .... ملامح فتاة العربة يرتسم أمامه وهولايعرف سببا لذلك .....انه
طيلة السنوات التي قضاها , كان محملا بهموم يكاد يكون حملها ثقيل  لو حملها
أحد غيره  لكنها هموم ذهب اليها وهو على علم مسبق بها .
الهدوء يعم المكان ,يكسره أحيانا صوت ملعقة الشاي  وهي تصطدم بزجاج القدح
 الواقعة تحت رحمة أصابع ذلك الرجل والذي يحاول وباصرار ,بأجبارها على الدوران
في قدح الشاي الممتلأ.
ولكن , وتيرة هذا الهدوءقد أخترقت ,عندما اقتحم رجل  يرتدي البنطال , ويضع
على رأسه العقال  يستغيث وهو يطلب النجدة لفتاة وقعت تحت براثم لص من
لصوص المدينة ......وما أن أنهى الرجل استغاثته , حتى كان سعدخارج المقهى
, وحامد يلحق به .
ثمة رجل ملثم ,يعتلي عربة الربل , ينازع القتاة ,راكبةالعربة, على شيء يخصها
...... أسرع سعد بأتجاه العربة,استطاع الأمساك بذلك المتعلق بباب العربة,ثم
طرحه أرضا........ حامد كان على مقربة يراقب وقد استشاط غيضا .
أنهض سعد الرجل , وقاده ليس ببعيد عن العربة, ,أ سند ظهر الرجل على حائط
بيت مجاور , قال سعد)بحدة( محدثا الرجل :
 هل رجولتك تستدعي أن تهاجم امرأة وتنازعها ..... عن أي شيء كنت تنازعها؟!
.
قال الرجل , وهو مصمم على عدم نزع لثامه : تلك المرأة .... هي ابنة المتصرف
..متصرف الولاية ,هي وأبوها ينعمان بالخير, ونحن نسلك دروب الذل من أجل
كسرة خبز.....ابنة متصرف الولايةهذه....تأتي الأسواق مرتدية أحسن الثياب ,
ويديها تتلألأ ذهبا.
قال سعد وقد تغيرت نبرة صوته, اذ بدى هادئا : وأنت تريد أن تسلبها الذهب .
الرجل : .................. !
أردف سعد قائلا : لماذا لا تسلك طريقا مباشرا ,حيث يمكنك أن تأخذ حقك دون
أن تفقد كرامة نفسك ؟!.....اذهب الى الذي سرقك, وخذ منه ما سرقك اياه
!!..... لا أن تسرق الذي سرقك, فتكون سارقا مثله , بل كن مسترد حق .
وبعد برهة..... قال سعد : اعطني الذي أخذته يداك ,لأسترده الى الفتاة
.....سوف أتظاهر بأنك أفلت من يدي , وحاول الأختباء .
غادرت العربة المكان , وتركت في نفس سعد جملة من التساؤلات.
عاد الهدوء الى المقهى ، بعد أن اختفت مظاهر التوتر التي حدثت في الطريق ،
وحده كان سعد جالسا على طرف الآريكة الخشبية وعينيه على ارض الطريق
المحاذي لبوابة المقهى...... جاء حامد نحوه حاملا قدح الشاي ، قدمه الى سعد
، جلس على الطرف الآخر من الآريكة .
بدآ يتسائلان ، أحدهما ينظر للآخر ... لماذا هذا الواقع الذي نعيشه ، واقع فقر
وفاقة ، هل اننا أهل بلاد ،أم ان هذا المكان يرفض وجودنا، وان كان الأمر كذالك ،
من أعطى الحق للآخر أن يكون الراعي ونحن نقبل أن نكون الرعيه....... ماالعمل
اذن؟
ان الأشرار منتشرين في كل أرض وكل زمان ،والحالمين بيوم جديد لازالوا يؤمنون
ان الغد قادم ، وثمة صراع  أزلي وأبدي  يبقى دائما بين الأشرار والحالمين .
الدخول السريع لرجل عبر بوابة المقهى, قطع تلك المحاورة ...... جاء لينقل خبر,
حين وقف في منتصف المكان ,قال بصوت مسموع :
 من يعرف سعد آل منصور .
نظر حامد الرجل القادم ,نظرة متفحص له , ثم قال : أنا أعرفك .... أنك من الخاصة
التي تعمل عند متصرف الولاية, وأظ.....ن ! أنك تعرف سعد آل منصور ! فلماذا هذا
السؤال ؟ وأنت تراه؟!
قال الرجل , ولم يكن محرجا ,أو فقد شيء من ثقته بنفسه :أجل أعرفه , ولكن أنا
رسول ,أحمل رسالة , وكان لزاما نحوي أن أجهر أمام من كان حاضرا , فبي المكان
, أناس كثر, ورغبة المتصرف أن يعلموا ,بأنه يود رؤية سعد آل منصور .
قال سعد : لك ما تريد أيها الرسول .
قال حامد : وأين يود ...مقابلته؟
قال الرجل : في بيته ...عند الساعة الثالثة عصرا .
انصرف الرجل , وعيون حامد تلاحقه ... التفت حامد نحو سعد وهو يقول :ماذا يريد
, هل عندك علم بالأمر ؟ .
قال سعد )بأستقراء( :حسب ما جرت عليه الأمور قبل قليل ,فان خبر الحادث قد
وصل الى أ سماع المتصرف .
قال حامد : تقصد حادثة عربة الربل ؟! اذن يريد ان يشكرك على صنيعك الذي
صنعته !!.
قال سعد : أو قل يريد أن يعرف ان كان حادث عابرقد طرأ في الطريق من مجرد
لص , أوهي رسالة موجهة أليه وأتباعه .
قال حامد :هل تريد أن تذهب ؟
قال سعد )باسما( : لايوجد مانع من الذهاب ...أظن اني سأقبل الدعوة .
هبط الليل وقد أرخى سدوله على بيوت المدينة القريبة من النهر .... على سطح
الدار  التي يسكن فيها حامد مع ابنته نوفه  أعد متكأ لضيفه سعد ..... كان
مشغولا  وهويقف بقرب الحائط الذي يعلو البناء , والذي يسمى مجازا"بالستارة" 
بمراقبة موج النهر , اقترب حامد منه وراح ينظر باتجاه نظر سعد , ثم قال : تلك
هي مدينة الناصرية في الليل , مدينة تحلم رغم انها لم تنم بعد ! .
قال سعد :تمنيت أن يطيل الله بعمري ......
زرع حامد ابتسامة سريعة على شفتيه, ثم قال : كم تريد ؟!
قال سعد :أريد .... أريد مئة عام أخرى , نعم مئة عام , حتى أرى كيف يكون حال
هذه المدينة .
قال حامد , بعد أن اتكأبمرفقيه على حافة الجدار :بعد مئة عام ؟ .... أنا سوف
أقول لك , أنظر الى النهر ,أنت تعرفه جيدا , بعد مئة عام ستراه كما هو, لاشيء
وقد تبدل فيه ,والبيوت والطرقات والأسواق والخانات و و و,لاشيء قد تغير... الا أذا
!
قال سعد :الا اذا ماذا ؟!
قال حامد : اذا جاء رجال ليسوأ على شاكلة هذا المتصرف وصاحبه ناصر العاصي .
الليل متشابهة الساعات فيه , في كل الأرجاء, حيث الظلام ودخان المواقد في
العراء ...... لكن بعضهم يحاول أن يتبع دقات قلبه من أجل ايجاد طرفي حبل
المودة لكي يتمكن من جعل اللذين يكون بقربهم في نقطة التقاء , هذا الأحساس
قد قاده لاقامة وليمة يذكر فيها أسم الله ,لأنه أيقن منذ زمن, لو ذكر الله فان
القلوب تطمئن .
الى بيته قد دعا أبوفاضل ..... والوليمة أقيمت , بعد أن أنهض المزارع "أباكامل"
آخر بعير من مجموغة الابل ,والتي كانت محملة ظهورها بأكياس محصول الرز ,من
باحة الدار الخلفية , حيث أعطت الأرض من خيرها هذا العام , ومن عادة الرجل
الضرير أن يقيم وليمته المعتادة في كل عام.
اكتمل الحضور..... ,ووجود "فهد "في هذا الأجتماع كان بمثابة تواصل للحديث عن
أخبار الديار , حيث الآذان صاغية والعيون تحدق بأنتباه شديد ناحية المكان الذي
يجلس فيه .
أحاديث  عن سطوة أصحاب القرار ومزايا الحياة التي يعيشونها  كان فهد يتلوها
الفصل الثاني
على مقربة من النهر القديم , وبين أشجار الصفصاف الكبيرة , بنى" شلال" بيته
على بقعة من الأرض, تبعد مسيرة يوم عن القرية التي يسكن فيها أبافاضل ,
تشاطره السكن زوجته "سليمه" , وأخت وحيدة هي "جميله" .
كان شلال قد سكن هذه الديار, منذ أن استوطن أباه فيها قبل عشرات من
السنين , وهويعرف هذه الأرض كثير اً, وبوفاة الأب أصبحَ هو المالك لكل شيء ,
مشاركة مع أخته )جميله( .
كان الصباح قد أزاح آخر خيط من خيوط الفجر ,أطلت "جميله" بوجهها المشرق
,كاشراقة الشمس, وقوامها الممشوق,الذي صاغته ساعات العمل الطويل , في
ظروف شبه قاسية.
لم تكن جميله ,لتجعل من هذه العطايا التي وهبها الله لها ,بمثابة أمر يمنعها من
أداء ما تشعر به اتجاه أخيها شلال وحين تكون في موقع العمل ,اذ ان أباها قد
هيئها  حين أدرك أن ولده سيكون وحيدا في يوم ما  لتتمكن من أداء هذا الدور .
كعادتها ,منذ أن تطأ قدمها خارج حجرتها, تبدأ مشوارها مع قطيع الأغنام ,حيث
حلبها ومن ثم المشاركة في خروجها الى المرعى .
بين قطيع الأغنام كانت )جميله( تتخذ طريقا لها ,حين التقاها شلال :
 صباح الخير ياجميله .
جميله بين القطيع ظلت منشغلة , فيما اتخذ شلال طريقه نحو النهر ....وبجانب
الضفة أناخ جسده وراح يغسل يديه ووجهه بماء النهر البارد لبرودة الصقيع ......
شلال لم يكن ليبدأ يومه حتى يمارس تلك الشعائر , صيفا كان أم شتاءاً .
ترك شلال مجرى النهر وحاول الصعود الى أعلى الضفة,تلك محاولة منه ليبدأ
النظر ومشاهدة القادم من المراكب..... تلك المراكب  الصغيرة التي تأتي عند
كل صباح وهي محملة بالبضائع  تعمل بقوة المحركات...... شلال يجهل كيفية
عملها , ولكنه لا ينكر على نفسه  أحيانا  انبهاره بتلك المراكب .
كان الهدوء يعم المكان.أشبه ما يمكن قوله .. حالة صمت .. تطبق على المكان ,
ولكن !!
كلمات بدأت تتجمع لتكون جمل حوارية, لكنها ظلت أسيرة تحت وطأة الدوران في
عقل شلال.... لكن ليس بأمكانه دفعها للخروج , اذ تمنى أن يكون أحدا بقربه
ليقول له ... أين طيور النورس البيضاء ,كانت تأتي كل يوم لتزور وجه الماء, لكنها
اليوم ترفض المجيء .
اعتاد شلال أن يطيل النظر عند الصباح ناحية اليابسة ,لعله يرقب زائرا يأتيه !
ولكن أبن عمه الأكبر "أبافاضل" رجلا ضرير أما فهد ,فهو لم يراه منذ سنتين .
من بعيد ..... صوت هدير محرك مركب قادم ,يكاد يسمع ..... شيئا فشيئا بدأ يعلو
مع اقتراب المركب.
كان شلال على معرفة تامة بكل المراكب المارة أمام محل سكناه ,لكن هذا
المركب القادم !! , فهو حديث العهد به ,بل يكاد يجزم بذلك .
بدأ شلال يتكلم مع نفسه بصوت مسموع قائلا : انه يحاول أن يرسو على ضفة
النهر ... عند الشريعة ! اذن انه يقصدني , أو لنقل يقصد داري, ترى من يكون ؟
وما الخبر الذي يحمله لي ؟ خبر مفرح يسر ,أم الآخر الذي يخنق الأنفاس ؟!
ترجل ذلك القادم من المركب ؛بعد أن نصبت له قنطرة من الخشب تنقله الى
اليابسة , عندئذ ايقن شلال ان هذا القادم يقصده او بالأحرى يقصد المكان .......
هم شلال الخطى لأستقباله ,وثغره باسما حين احتضن كف يده الأيمن ,كف يد
الرجل القادم وهو يصافحه .
ثم....ادرك شلال ان الترحيب لايكون كما يجب , حتى يكون الضيف في بيته .......
وهناك ,جلس الوافد الجديد وشلال في حركة مستمرة أمامه ,يحاول أن يقدم
لضيفه بوادر كرمه ....... حين عرف شلال أن ضيفه يود الحديث بكلام يرغب فيه ,
أصغى اليه
عندما قال:
 لو كان الأمر بيدي ما أتيتك طالبا لشيءٍ ,هو يخصك وعزيز عليك , وانا على هذا
النحو من المجيء , اذ من عادة الوافد لمكان  وفي نفسه رغبة كالتي أحملها  لا
يأتي بمفرده , بل يجمع اليه ثلة من خيار الناس , ولكن ..... ولكن العين تخشى
العمى !! .
لم يخفى على شلال , ان هذا الرجل قد جاء مكرها , والذي بعثه..... من يخشى
منهم .
أبصر شلال بفراسة ذلك الرجل وما يرتديه من حلة , تكاد تدنية من مرتبة الشيوخ
أو أعوانهم ...... لكن شلال لم يستبق الأحداث
اذ عاد ليقول : ايها الضيف ,اقترب في كلامك بما حئت به , ثم افصح ! .
قال الرجل :بعثني كبيرنا .........
استغراب شديد, بدت ملامحه ترتسم على وجه شلال ,عندما أخبره الضيف بأسم
ذلك الذي قصده بالكبير ... انه ناصر العاصي .
ماذايريد هذا العاصي ؟ اذ انه لاياتي شيئا الا ويعلم انه سيأخذه , حتى .... لو كان
الأمر يتطلب القوة ! ولكن ماذا يريد ؟
هزه الجواب كثيرا , بل شعر وكأن قلبه قد فر من صدره ,عندما علم ما يبتغيه كبيره
المزعوم.... ماذا يصنع وقد هربت كل الأجوبة من رأسه....... ولكنه اهتدى الى
القول : اعلم أيها الضيف ,ان كنت تريد أن تكون كذلك , أن أختي لاتطلب يدها
للزواج هكذا ..... أعلم كبيرك قولي هذا ..... ثم اعلم أن لها أجنحة يمكنها أن تطير
بها متى شاءت .
ضحك الرجل ...... ثم قال : أجنحة !! قل كلام غير هذا .
قال شلال وقد بدى متجهما :مثلما سمعت , فهو كذلك.
قال الرجل : ماذا تقصد ياشلال ؟!! .
قال شلال :لها أولاد عم ,لو ذكر إسم أحدهم ,لفر من كان في نفسه جأش .....
لها إبن عم إسمه فهد , ولا أظنك تجهل اسمه ؟ .
ارتد الرجل الى الوراء , وظل لبرهة من الوقت صامتا , لا يفعل شيئا سوى النظر
بوجه شلال .... نهض الرجل , ولكن ليس كما جاء .
قائلا: سوف أجعل كلامك هذا على مسمع ناصر العاصي .
اتخذ المركب مسارا للعودة من حيث قدم , وعلى متنه ذلك الزائر الغريب .......
فيما عاد الى مداولة الأفكار ,لعله يهتدي الى سبيل الصواب .
بدأ شلال بالبحث عن صبار , ذلك الرجل الذي اعتمده شلال لرعاية قطيع الأغنام ,
ولكن أين صبار؟ جاءه الجواب من اخته جميله... انه في المرعى .... خرج قبل
ساعة .
اعتلى شلال صهوة جواده , بعد أن أيقن ان الحل يكمن عند أةلاد عمه , ولاسيما
فهد ..... فهو وحده القادر , أن يجعل خطوات
الأمر المبهم  ان حصل  ميسرة, ويكون الحل خلالها .
..... مع خيوط الفجر الأولى , اتخذ صبار طريقه نحو ديار أبي فاضل ....تاركا خلفه
شلال يعيش في دوامة من الأحساس المرعب .
عندما كان يجلس بجوار النهر , أدرك ان شرفه في خطر ....ماذا لو تم لناصر
العاصي ما يريده ؟ سأل نفسه , ثم أردف قائلاً :
ماذا ؟ هل تكون جميله احدى سباياه ؟!
اهتز كيانه وبدت يداه ترتجف ..... من أعطاه الحق أن يفعل , أو......سيفعل .
أدار شلال وجهه ناحية الغرب .... ثم قال : أين أنت ياصبار الآن , بل اسرع وسابق
الريح حتى تعثرعلى فهد , ابحث عنه في كل مكان,ثم أخبره أن الظن به كبير ,
ولي به عهد قديم أرتجيه الآن.
ولكن ...... لو علم شلال  أن رسوله قد حل ضيفا هذا الصباح .....وعند ابن عمه
جرى حديث عنه  لاستراح قلبه ، وربما يهدأ باله !
حين قال أبو فاضل : أيها الضيف , ان فطورك قد حضر , فخذ منه ما أستطعت .
ولكن صبار ! يحمل هما حين قال: ان حاجتي للطعام كبيرة , ولكن .... ما أحمله
من خبر يمنعني من أن أقضي تلك الحاجة .
..... صاحبي الذي أرسلني , أظنه لم ينم ليلة الأمس ,حيث أنا في طريقي اليكم
.
بعد اندهاشةٍ ... قال أبو فاضل : لك العذر ان لم تتناول الطعام , ولكن هل لنا أن
نفهم ؟ لعلنا نساعد !
تمنى صبار لو يستطيع أن يزيح ذلك الحمل الثقيل الذي أعياه حمله ....عندئذ قال
:ان ما أحمله من أخبار , هي منكم واليكم !
فهد كان يصغي , ولكن هذا الحوار بدأ يقلقه كثيرا ..... فأوحي لهذا القادم أن
يفصح , فجاء الرد يتخلله بعض الأسى :
 ان لكم ابن عم يسكن جهة الشرق؟
نبرة صوت عالية أطلقها فهد : شلال ؟
قال صبار : نعم شلال , وأنا رسوله .... ان أخطار بعض المفسدين قد أحاطت به ,
وقد تصل الى أركان بيته... فهل لكم أن تنصروه ؟
قال فهد : بل قل سوف نفديه ان تطلب الأمر .... شلال ! أنه أخ ,وابن عم .
نهض فهد من مكانه وبدأ يقول بصوت منخفض , وقد بدى يستذكر شخصية شلال
كما عهدها شلال رجل يذهب الى السلم على قدميه
ولكن ! من يكون هذا المفسد ؟ .
قال صبار : انه ناصر العاصي .
وبألم في كلامه, قال فهد : شرور الدنيا قد اجتمعت فيه , وكل صفات الأشرار
صارت صفته .... هذا هو العاصي .
مضى بعض الوقت , وصبار يتحدث اليهم والجميع في اصغاء .
وبعد حين ... أوفد فهد فاضلا ,مبعوثا يحمل رسالة الى صديقه سعد آل منصور
,بدعوة منه للألتحاق به , حيث يكون اللقاء .
وبقرب الجواد  الذي سوف يحمل فاضل الى يلك الديار  وقف فهد قائلا : خذ معك
من تأتمنه حقا ليكون لك رفيق درب .
قبل أن يعتلي ظهر الجواد.. قال فاضل : لقد أوعزت له بالخروج معي , انه راضي .
انطلق فاضل في رحلة , يرافقه ذلك الصديق الذي رسم معالم طريق التحدي في
اعماقه مسبقا .
وغبار آخر قد خلفته حوافر أقدام الخيل المتسارعة وهي تتجه نحو الشرق , حيث
فهد وبر فقته صبار..... تلك الرحلةالتي تشابكت فيها ساعات النهار بالليل .
الشمس تقترب من ساعة الغروب ,والخيول متعبة , تكاد تلتقط أنفاسها .... ولكن
ديار شلال قد لاحت على بعد البصر , وهناك وقف شلال على رابية , تترقب عيناه
ومضة ظل لقادم , وقرص الشمس النازل يكشف قدومه .
تهلل وجهه بفرح , وأحس بشعور لم يخالجه من قبل , عندما لاح في الأفق غبار
الأرض .... راح يصيح بعلو صوته :انه هو ...
هبط شلال من ذلك المكان  كطائر وجد طريدته  عندما اقترب الركب وهدأ غباره
المتخلف عنه
وبعد العناق .... قال شلال : يظنون أن بامكانهم أن يستعبدوا الأحرار , وما علموا
انا على علم بمسالكها سلفا .
قال فهد : بل انهم واهمون لو عرفوا ان النفس الحرة تأبى المرور في طريق,
يكون جانبيه مسكون بالذلة . ولكن..... الأصرار على قتل الأحلام له جنوده في كل
زمان , وكذلك المكان , فالذئب يصر الآ أن يأخذ مايريده .
لديه قلب يشتاق الى ذلك اللقاء المرتقب الذي أوصى به ذلك المعلم )فهد( ,
والذي طالما علمه كيف يكون الأشتياق , فهو لديه شوق لمعرفة أسرار الدرب
الذي سار به مع معلمه "فهد" .... قال له المعلم ذات يوم : معرفة سر الشيء
,يمَكِنِكَ من امتلاكه .
سعد في طريقه الآن الى تلك الديار التي تبحث عن فارس يستطيع يمتلك فك
لغز سرها .....فارس يمتلك في قلبه مكنونات الوصول .
سئل نفسه’ قائلاً : هل الحب هو سبيل الوصول , أم الكراهية ........ أني أعلم ,
أن الحب والكراهية للوهلة الأولى يبدو ضرب من قلة الادراك, لذلك تراهما ان وجدا
, فان وجودهما ينحدر نحو الزوال ....ولكن ! هذا حب قد ولد ليعيش , اذ لايمكن
العيش في ديار بدون حب لها .
جاء سعد  وبرفقته أحد عشر فارسا قد اختبرهما حين تمكن من محاكات بذور
ذلك الحب الفطري الذي يسكن في أرواحهم  وهو يدرك أن باستطاعته,
المشاركة في تغيير القادم من الأحداث .
حين أخبره فاضل بأن الوقت لم يحن بعد للقول, بأن المسافة اقتربت ....أوحى
سعد لراكبي الخيول بأنها متعبة, ولابد لها من الركون الى الراحة .
استلقى سعد على العشب المشبع برائحة الشتاء, ثم راح ينظر بأتجاه البعيد من
معالم الأرض, رغم بعد المسافات التي تتراى له,فهو على يقين.... ان الركب
سيصل ,وان وصوله سيكون قريب ... لأنه يعرف أنه قد اختار السفر نحو الحقيقة,
لابد له أن يصل ....وكم تمنى أن يتمكن فهد من نقل هذا الأحساس الى ابن
عمه "شلال" .
في ذلك الأجتماع الفوضوي  الذي تصدره ناصر العاصي  أراده أن يكون بمثابة
صفعة لمن يحاول أن يتحدى قرار هو اتخذه , وشلال أباح لنفسه أن يكون ذلك
المعاند الذي يجهل ما يريده
الأقوياء .
بعد أن أتمت الشمس اخفاء قرصها  وقد بدى أكثر حمرة  وكأنها لايريد المشاركة
فيما يكون . جلس )دنيف( على مقربة من ناصر العاصي .... نظر اليه ناصروقال :
متى سيكون لقائنا بشلال يادنيف ؟
قال دنيف )بتحفظ( : الأمر تقرره أنت حفظك الله .
ضحك ناصر وقد اهتز بدنه , ثم قال : ماذا يادنيف , أتخشى أن يكون أقتراحك لا
يروق لي ....لا لا , قل .
قال دنيف : ان خرجنا باكرا سوف نكون عنده ضحا .
هز ناصرالعاصي رأسه دليلا بالتأييد ......ثم قال :أن تخطى الحدود في معرفة
شأنه , أفعلوا له
ما من شأنه أن يعّرفه,بشأنهِ .
صمت قليلاً ثم أردف قائلاً :
دع عازف الربابة يأتينا ليسمعنا , فاني بي شوق لذلك.
قال دنيف : لك ما تريد يامحفوظ .
رفع دنيف نصف جسده , صاح قائلا : ياصيهود , دع صاحب الربابة يأتي الينا.
التفت دنيف ناحية العاصي وقال: نريد أن نجعل كبيرنا يحلم بالمهرة القادمة .
ضحك العاصي وقال : أحسنت يادنيف , انني أريد ذلك فعلا .
راح دنيف يتحدث مع نفسه قائلا : اضحك , اضحك كثيرا , فأنت لا تعرف ما ينتظرك
غدا , آه لو عرف فهد وجاء.... لااتصور اللقاء كيف سيكون ؟!
جاء الصباح ..... وأصبح الأمر واضحا جليا  مادام هناك من يريد سرقة الحلم  بأن
المنازلة واقعة .... وحين تسلل اليقين الى تلك النفوس بأن الغاية واضحة
كالشمس .
بين ثنايا الأرض المحيطة بديار شلال ,اتخذوا أماكنهم ، خشية منهم أن ينفذ الشر
الى مكان , أرادوا له أن يبقى آمنا كي يهنىء به ساكنيه.
أولئك الفرسان قد علموا بأن رياحا تحمل الشر قادمة, ولكن !..... من أي
الأتجاهات سيكون القدوم ؟
الوقت يمضي !..... وبين هيجان الروح  عندما يكون كارهة للاستكانة  وساعات
الأنتظار , هناك كان الفارس "المعلم" يخطو بلا هوادة , مثله كمثل من كان يبحث
عن بركة ماء ,ليطفىء نارا قد بدأت تلتهم أطراف ثيابه السفلى , حين أراد المعلم
أن يخبرأولئك الفرسان ,بأن طريقهم هو الصواب.....
وعيون الفرسان صوبه تحدق حين راح يتكلم شقشقتا : اعلموا أن الله سبحانه
أعطانا وقتا في هذه الحياة,لذا.....فما الذي سنفعله ؟
ذلك هو السؤال .
في خلسة اقتطعتها )جميله( أخت شلال من زمن الآنتظار الذي تمارسه العيون 
وهي تربو مجرى النهر  لتتسل الى حجرتها بعد
أن شعرت أن الطوق يكاد يعانق رقبتها الى ذلك الصندوق الخشبي ,اقتربت اليه
لتفتحه ..... نظرت فيه ثم مدت يدها بداخله ,فأرجعتها وهي حاملة بندقية
ابيها..... تهيئت للخروج, بعد أن عقلت رأسها بعصابة سوداء .
أصبحت جميله خارجة تترصد الأماكن ، أيهما يكون ملاذ للاختباء.... راحت تهمس
مع نفسها قائلة : يجب أن يكون قرب النهر , ولكن أين؟
.... أظنه قرب الأشجار .
تلك الأشجار التي أصرت على البقاء واقفة طيلة الزمن , قد احتضنت جميله
ليتواريها عن الأنظار, لكي تتمكن من تنفيذ ما أرادت .
الوقت لازال يمضي .... ولكن ! من بعيد , ثمة مركب قد لاح ,لقد عرفه شلال ....
صاح :إنه المركب الذي يحمل الأجساد التي اختزلها أوهام الشر ,أجساد أصبحت
عبيدا لتلك الأوهام وتأتمر بأمرها.
من سيكون الأول , الذي يعتلي ظهر المركب عندما يبدأ بالرسو ..... لكن شلال
كان واقفا ينتظر تلك اللحظة  رغم انه لايعرف ما سيحصل  لأنه امتثل لأمر) فهد (
حين قال له : انك أول المتكلمين مع )العاصي ( .
ترجل )دنيف( من المركب , واتجه نحو شلال .... رجع ثانية الى المركب , وقد اقتاد
شلال الى سطح المركب .... ليس في نية شلال أن يقول شيئا, لأنه لايملك
الجواب لأسئلة ربما تتوجه له من قبل العاصي , ولكنه قد يتحدى صمت الكلمات
في فمه, عندما يكون لابد من الكلام ....... شلال وجهً لوجهِ مع ناصر العاصي ؛
رجل يمتلك جثة كبيرة ولون بشرته أسمر , يميل الأصفرار .... قد عقل رأسه )
بعقال مقصب( ,جلس على متكأ قد أعد له , بيده عصى من الخيزران ,يحاول أن
يرسم خطوط وهمية على سطح المركب الخشبي .
انفض الجميع ولاذوا  من كان على سطح المركب  عندما هم العاصي
بالنهوض,باستثناء شلال ظل واقفا, ينتظر كلماته التي سوف يقولها....... بشموخ
زائف  أحسه شلال  قال العاصي : أظن أن باستطاعتك أن تجعل أختك زوجة لي
.....وان كان الأمر كذلك , فلماذا اذن ...... تريد أن تجعلني أقف أمامك وأنا أشعر أن
جزء مني قد فقدته........ ياشلال , أنا بنيت عالمي هذا لأجل أن أعيش فيه كما
يحلو لي ....لا كما يرغب الآخرين ,بالرغم.....بالرغم من أن الآخرين راضون بما أنا
عليه في عالمي الذي صنعته.... إقبلْ بما جئتك به , لأنني لم أستعد بعد, لأغير
شروط التعايش مع الآخرين .
قال شلال : أنت تمسك بدفةِ الشرِ في عالمك الذي تدعيه, وتحاول أن تنشر
الذنوب ..... وهذا النهر يأبى إلا أن يغسل الذنوب ,
فأين أنت ؟
ها ها ها , قهقه ناصر العاصي , وصدرت عنه ضحكة عالية...نظر بوجه شلال قائلا:
أين أنا؟ كما ترى ... عند ضفة النهر , وقد جئت من خلاله.
قال شلال : عجباً تأتي مع الماء ..... ياعاصي إذهب بعيداً عن مكان وقوفك هذا ,
فأنت تقف عند )الشريعة(...... وتلك ما إستقبلت أحداً , إلا من كان يبحث عن
الأمان .
قال ناصر العاصي : بمن تحتمي يا شلال ؟
قال شلال :بمن هو أكبر منك .....ومني , أحتمي بالله سبحانه وتعالى .
قال ناصر العاصي : ياشلال ... دع عنك هذا الدرب , فلا طاقة لك لتجعلك تسير
فيه .
قال شلال : أنت العاصي بين الناس .... فلا تكن مع الله كذلك .
أطبق الصمت على وجه ناصر العاصي , وقد استشاط غيضا... رفع يده , فلطمَ
وجه شلال ... وقع شلال على الأرض ... هام بعصى الخيزران أن يضربه , فعلى
دوي صوت إطلاقة بندقية من مكان قريب , قد ملأ الأرجاء ..... ترنح العاصي وهو
يلوح بعصاه .
وبين اندهاش الجميع , وبحث العيون  وهي ترصد المكان الذى جاء منه الحل 
سقط ناصر العاصي .
عند المساء ...انعقد القاء لأتخاذ القرار , ثمة أسئلة حوارية كانت تدور , هل ناصر
العاصي قتل برصاصة أطلقتها )جميله ( من بندقيتها .... هل هي قاتلة,أم أنها
كانت تدافع عن أرض ووطن .... صاح أحد الفرسان : هو جاء بنفسه يطلب الموت
لنا ,قبل أن يلتهمه الموت ذاته ..... فارس آخر قال : ماذا عسانا أن نفعل ؟! لأن
الأمر لم تنتهي على هذا الحال , فان للشر امتداد , وقد يصل
الى هنا من جديد ... اتخذ القرار , جميله ليست قاتله .... وشلال يجب أن لايكون
وحيدا , فوجب عليه الرحيل , ولكن الى أين ؟!
الى ديار سعد آل منصور .
جميله حائرة , اذ كيف تترك ديارا تربي فيها , وهي أرض أبيها وأخيها ... هل للقدر
نصيب في ذلك ,أم انه هي ضغينة البشر بأتجاه فعل الشر....و نظرة الوداع لا
تكفي عند الرحيل .
منذ’ ان خرج شلال من دياره , والسماء ترسل  بكل ما لديها من قساوة  برد
الشتاء , ولكنهم وبعد ثلاثة أيام , يكاد الركب أن يصل بعد أن بانت آثار الديار
الجديدة, وتكاد تتكشف شيئا فشيئا , وكأنها ترتفع عن الأرض ... صاح أحد
الفرسان : انها الديار , ديار سعد آل منصور .
وجوه أتعبها طول الطريق , تكاد تصل الى الديار , فهل لها أن تستريح؟
اقتربت تلك المرأة الطاعنة في السن من أولئك القادمين , انها )أم سعد( ... الى
أين تتجه ؟!
نحو )سليمه( زوجة شلال , رق قلب المرأة العجوز, حين شاهدت بطنها المرتفعة
تكاد تصل الى صدرها  قالت لها :
 أظن , لم يبقى لك الكثير من الوقت !.
تحسست بطنها براحة يدها ,ثم قالت برقة : كان الله في عونك .
تقدمت المرأة الطاعنة في السن خطوتين ,ثم توقفت أمام )جميله( , شاعت
على وجهها نظرة انبهار , وهي تشاهد جمال ذلك الوجه .
قالت أم سعد :ما أسمك يابنيتي ؟
قالت :أنني جميله .
قالت : وأنت كذلك , وقد صدق من أسماك .
قال شلال , الذي يقف قريبا : انها أختي .... قالت : وستكون ابنتي , وبيتي
سيكون بيتكم , وهذه الديار سيكون دياركم .
قال شلال : ليس غريب على أخي سعد أن يحمل تلك الأخلاق , انني أعرف الآن
أن الأخلاق تنبت كما الأشجار الكبيرة .
أيام تتلوها الأيام الأخرى , بعضها ييشابه , وربما يحدث بينها اختلاف .... مضى
وقت وعائلة شلال تسكن الديار الجديدة.
فهد وسعد والبقية الباقية من الرجال ,في شد وتراخي عندما يقيمون ما يدور في
الجوار ,فأحاديث الليل طويلة , وهي يأتي من هنا وهناك , تتناقلها ألسن العائدين
من تلك الأرجاء .
عاد فاضل من ديار أبيه , بعد زيارة قام بها  بتكليف من عمه فهد  وهو يحمل
أخبار القرى ومدن الطريق ... سأله عمه .
فقال : شيوخ العشائر تتبارى , أيهم يحظى بأستضافة) الملك ( القادم من ولاية
بغداد... وإن كانت وليمة العشاء عند أحدهم , فالغداء كان لزاما أن يقبل به الملك
عند الآخر , حتى وان لزم الأمر على قطع الطريق أمام الملك .
قال سعد ) وهو يجلس في ذلك المجلس , ببيت مصنوع من وبر الأبل , منصوب
في العراء ( وقد بدى في حيرة من أمره :
 عجبت’ لأمرين , أولهما , كيف يكون لملك لا يعرف شيئاً عما يدور في مملكته ,
ويقول أنا ملك البلاد , وثانيهما , هولاء الشيوخ , يظن أحدهم بأن وجوده على غير
مايكون لباقي البشر , فأضحى بعضهم يمارس دور الخصم والحكم ... فأنظروا كيف
جلب البعض منهم مآساة لبسطاء الناس , حين ساندوا أولئك الشيوخ , تجار
الحبوب
كي يشتروا ما استطاعوا وتركوا الأفواه جائعة , وأدخلوا العامة في زمن القحط ....
انها والله مأساة تتلوها أخرى , وضياع ما بعده ضياع .
قال فهد : أجل ياسعد , انه الضياع , ولكن لهذا الضياع سر .
قال سعد :الأسرار كثيرة في هذه الأرجاء.... يرى متى يحين الوقت حتى نتعرف
على هذه الأسرار, لا أدري ! ربما لن نتمكن فيأتي الآخرين, وقد يعانوا ما نعانيه
اليوم.
عاد سعد الى بيته متعبا , وقد التقته أمه في غفلة من المحيطين به ... قالت :
أراك متعبا , وقد أخذت منك الهموم مأخذاً... ماذا ياولدي ؟
قال : انها الدنيا وهمها !
قالت :بعض همومها يزول بوجود المرأة , ولاسيما الصالحة منهن ....أما آن الأوان
لتتزوج ؟ أظن اني وجدت لك ما أحب , وإني لأرجو أن تكون من نصيبك .
ضحك سعد وقال :وجدت لي ! من تكون تعيسة الحظ تلك ؟!
قالت : بل قل السعيدة .... إنها إسم على مسمى , إنها جميله أخت شلال .
صمت سعد, وكأن والدته قد أيقظت أمرا كان غافلا عنه ..... قالت الأم : ها... إنها
فرس’ أصيل .
قال :نعم , انها كذلك , ولكن خيّالها لست أنا ..... بل ابن عمها فهد , وتلك هي
رغبتي ياأماه .
أصيب فهد بالذهول , عندما أعلمه ذلك الصديق سعد برغبته تلك ....قال فهد في
تلعثم , وكأنه يخشى النساء :
 أنا أتزوج , أنا وكما تعرفني بلا عنوان يهتدون بيه الي .
قال :أراك تخشى النساء, عندما تتكلم هكذا , هل تخشاهن حقا , أم انك بت بلا
احساس اتجاههن؟!
قال : أظن اني فقدت هذا النوع من الأحساس بدون نية مسبقة , ربما لأن همي
كان كبير , أو مسالك الدروب التي سلكتها كانت متشعبة .
تكاد الشمس تنحدر نحوالغروب ,عندما أعلن فهد موافقته بالزواج أمام سعد....
كان فرحه لايوصف , ذلك الصديق سعد حين أخبره شلال أيضا برغبته في هذا
الأقتران لو تم بين أخته وابن عمه فهد.
الأيام تمر بسرعة , وموعد الزواج قد اقترب , وثمة أعمال قد جرى تنفيذها ....
حيث أوفد فهد ابن أخيه فاضل , يرفقه راضي الى ديارهم لكي يدعوا الرجل الضرير
لحضور مراسيم الزواج .
كان سعد منشغلا ,بتجهيز مايلزم لأقامة وليمة , أرادها أن تكون كبيرة, تليق بهذا
الصديق , وتلك الأرادة السخية كانت محل اعتراض من قبل فهد , معللا ذلك , انه
بذخ كثير, ولكن سعد اعترضه قائلا :
 بودي القول , كما قال سيد البلغاء إمامنا علي ابن أبي طالب)عليه السلام( ,
ولكن بطريقتي .... أقول ان إقبلت , فكثرة العطايا لا تنقصها , وان أدبرت , فالبخل
لابيقيها ...... اذن ياصديقي , هكذا هو حال الدنيا , بين إقبال وإدبار , ثم إن الأمر
عائد لي وأنا أريد أن أبرهن على علو شأنك عندي , وأفاخر بيه أمام أهل الديار...
فلا تعترضني .
اليوم موعد العرس .... وعلامات الفرح بدت واضحة في كل أرجاء ديارسعد آل
منصور , لأن فهد يعني لهم الكثير , فهو مالك للشجاعة إن تطلب الأمر , وقد
إختبروه فوجدوه كما ظنوا , ولم يكن فهد مجرد الضيف الصديق على كبيرهم
)سعد( ... أجل إنه’ كبير القوم , رغم وجود منهم أكبرمنه سننا, وكانوا كثر .... إلا إنه ابن كبيرهم )منصور( الذي كان  في زمانه  راعيا لكل من سكن وتوطن في
تلك الديار .
حين بدأت السمش تقترب من الزوال , نظر فهد الى السماء , فأرجع بصره وفي
عينيه قلق....إنَ أخي قد تأخر وصوله !
هكذا أخبر سعد وشلال , حين كانوا بقربه.
قال شلال وهو ينظر بأتجاه الدرب القادم الى الديار : لازال هنالك متسع من الوقت
, فالعصر لم يحن بعد .
وجاء العصر ..... حينها امتلأ الفضاء الواسع والذي يقع أمام البيوت الطينية
بالوافدين , وبين هذا الجمع , وقف فهد وقد ارتدى أجمل حلة, لم يرتديها منذ زمن
بعيد .... عيناه تترصدالدرب وهو يبحث عن ضالته التي لم تزل مفقودة .
حين نظر سعد,فجأة ,بوجه فهد فرآه وقد توهج فرحا , فأدرك أن ثمة أمر قد طرأ,
فنظر كما ينظر فهد , فعلم أن أبا فاضل قد وصل , برفقته ابنه فاضل وثالث معهم ,
انه راضي .
اخترقت الخيول الثلاث ساحة الأحتفال وركابها, حينها تقدم فهد مسرعا نحو
القادمين , وخلفه سعد يحث الخطى .
عناق حار يتبعه تبادل التهاني بعد الترجل عن الخيول , وفي ركن قد هييء
,أجلس فهد أخاه ليسمع ويستمتع .
مراسيم العرس قد ابتدأت ,قبل غروب الشمس بقليل , نظام دقيق قد وضع في
حيز التنفيذ , يشرف عليه رجال أكفاء ,فوليمة العشاء جاءت بوقتها ,لتوضع أمام
المدعوين, وبطريقة خاصة .
الليل بدأ يخيم على المكان .... أذن لابد من الضياء أن يحل مكان الظلام ... جاء
الضياء ساطعا , عندما بدأ عدد من الشباب برفع المشاعل بأدوات صيد الأسماك ,
تلك التي يسمونها )الفاله( .
ساعات الليل تتقدم , وموعد الزفاف قد اقترب , أصوات زغاريد النسوة تعلو في
المكان الذي تجلس فيه جميله , وتكاد تلك الأصوات تتقدم زاحفة في الهواء لتصل
الى مسامع أبي فاضل , فتزيده فرحا .... نسوة وقفن بصفين .
أحد الصفوف ينشد قائلا :)جبنه عروسك يسباح الكلب (...فيأتي الرد من الفريق
الآخر صفكه وهلاهل على طول الدرب( ...لم يتمكن الرجل الضرير من كبح
جماح ذلك الحب الذي يكنه لأخيه في تلك اللحظة ,حين أرغمه هذا الحب ليبرهن
..... نهض أبو فاضل من مجلسه , وسار بمفرده عدة خطوات وهو ممسك بعصاه
التي يتحسس بها طريقه.
وحتى أصبح في منتصف المكان ,وقف هناك والجميع يراقب ماذا سوف يصنع ! .
أطبق الصمت على المكان , والرجل الضرير في مكانه , وكأنه ينتظر شيء ما
سوف يأتيه ليعلمه ما سيقول .
وفجأة ر فع عصاه, وهو ممسك بها من الوسط , فوق رأسه.... هزج بأصرار عنيد
ثلاثا :)عريس أو ربعه ايزفونه..... عريس أو ربعه ايزفونه ..... ( .
صمت بالثالثة قليلا ... نهض سعد من مكانه مسرعا , ووقف خلف الرجل الضرير,
وبعد أن أحس بوجوده , أطلق الثالثة , وهو يضرب بر جله اليمنى الأرض قائلا : )
عريس أو ربعه ايزفونه ( , وسعد يدور حوله ويردد كما هو يقول .
ألتحق فاضل ,ثم راضي , وتبعهم جمع كثير ليكونوا حلقة كبيرة حول الرجل الضرير
, يدورون كما الرحى حول قطبها .
فهد بالقرب من زوجته )جميله(, لوحدهما لأول مرة .... انقطعت زغاريد النسوة ,
وهدأت أهازيج الرجال , وبدأ كلام آخر , قال فهد وهو يتقدم نحوها : كم أنت جميله
, وأشهد أني لم أرى , وما رأت عيني مثل هذا الجمال .
بدأ فهد يحدق بوجه)جميله ( ويتفحص معالمه, يخالجه شعور فرح قد امتزج
بالرهبة من شيء ما يكاد هو لايميزه بدقة
في تلك اللحظات .... عاد ثانية الى الكلام , بعد أن جلسا باقتراب , قال : أنا لست
شاعرا , لكني أستطيع القول ....... نور وجهك يكاد يضيء المكان , واني لا أرى
نورا غير هذا النور الذي يشع أمامي ... حين امتزج هذا الجمال بصفة أخرى
تملكيها , الا وهي الشجاعة والتي عرفتها منك عن كثب , يكون الأمر خيال...
وهذا ما لا أستطيع أن أصفه .
جميله كانت تصغي , ولكنها لم تكن لتتحرر من خجلها ... تارة ترفع رأسها , وتنظر
بوجه فهد , وأخرى تخفي وجهها, الا انها أصرت لتقول: عندما أريد أن أقول شيئا
سأقول ..... انك تملك قلبا كبيرا , الى حد يمكنه أن يستوعب كل عذابات الآخرين
اللذين لا يستطيعون البوح بتلك العذابات ... وذلك القلب يستطيع أن يحمل
الأحلام...... أنني أمتلك براعم لم تورق بعد , احاول أن أجعل الأوراق تنمو على
تلك البراعم حين تكون بقربي .
مضى فهد تلك الليلة وقد انقضى ثلثها , وهو يتحدث الى تلك القادمه الجميلةالى
حياته .
لواء الناصريه  بناية السراي)متصرفية الناصريه(
بجلوس متصرف الولاية في حجرته ,خلف مكتب مصنوع من الخشب الهندي , أتاه
عبد الجبار )حافظ سره الشخصي ومستشاره ( ووقف بين يديه قائلا :
 دنيف ... ينتظر القدوم عليك .
بصوت منخفض  كأنه لم يسمع جيدا  قال :من ... قلت ؟
قال: الرجل الأقرب لناصرالعاصي , انه خلف الباب .
بصوت حاد , قال : دنيف ,دعه يدخل حالا .
عند دخول )دنيف( حجرة المتصرف , بدى وكأنه يحمل خبر أوأخبار قد تربك ما
اعتاد متصرف الولاية أن يفعله كل يوم .
كان حدس موفق , ذلك الذي راود نفس متصرف الولاية , اذ أخبره )دنيف( بلا تردد
أن ناصر العاصي قد قتل , ذلك الخبر الذي هز كيان المتصرف من الأعماق .....
ناصر العاصي هو اليد الخفيه التي كانت تعمل بالنيابة , اذ أن متصرف الولاية كان
لايدخر جهدا في استخدامها للنيل من خصومه ان تطلب الأمر , وكثيرا ما يحدث
هذا .
أخذ متصرف الولاية يتداول الأفكار , عما سيفعله  مع مستشاره عبد الجبار  بعد
أن انصرف )دنيف( , تلك الشخصية التي تتسم بالخبث والدهاء , والذي كان يصوغ
الأفكار بطريقته الذكية كي يدفع بها نحو العاصي .
عبدالجبار , حاول أن يجعل المتصرف يقترب في استنتاجه , بأنه يمتلك الحل ,حين
قال له : دعها لي وأنا آتيك بقاتله .
لكن المتصرف بدى فاقدا لكل الخيارات , وهو يستمع لكلام عبدالجبار ,واكتفى
فقط بأظهار الريبة من الأمر برمته .
في المساء .... استدعي مأمور الشرطة من قبل متصرف الولاية  وباقتراح من
عبد الجبار  الى بيته الواقع على النهر وتكلم معه عندما كان عبدالجبار موجودا.
قال المتصرف) بحدة( :من أكون ؟
قال مأمور الشرطة )بأستغراب ( :جنابك ... متصرف الولاية !!
قال : وأنت مأمور الشرطة ...... وهذا عبد الجبار ) أشار اليه بأصبعه ( .... وأنت
تعرفه .
قال : أجل جنابك ) وهوفي حالة من الأستغراب (
قال المتصرف : وجنابي قد فقد كل الأفكار , بمقتل ناصر العاصي ....العاصي وكما
تعلمون أتباعه كثيرين , وما حصل له ..... أظنهم لايطيقون صبرا , بل سوف يعتدون
ويعتدون , اذن علينا أن نسبق الحدث وقبل أن يقع .... أيها المأمور
أريدك أن ترسل ,من تجده الأسرع من بين خيّالة الشرطة , يسابق الريح, حتى
اريد ¸ يتمكن من الوصول الى ديار سعد آل منصور ... فقد علمت بوجود فهد هناك
منه أن يخبر فهد بأنني أرغب برؤيته , وبعودة ذلك الخيّال الى الولاية .
لكن .... متصرف الولاية بدأ خفيا مع نفسه يتكلم حيث قال: رغم أنني لا أريد أن
أتذكر وجوها تذكرني بالماضي .
كم أود أن أفقد احساسي بذلك الماضي , والذي يشكل وجود فهد فيه نقطة
ضعفي الدائمة .
بوصول ذلك )الخيّال( من خيّالة الشرطة الى ديار سعدآل منصور , أصبح الوقت
عصرا ... أيقن سعد بضرورة أخبارفهد بما يجري بعد أن كان أول المتكلمين مع ذلك
الخيال .... حين التقاه ,قال له بمزحة : يبدو أن صاحبك المتصرف قد ازداد شوقه
اليك , فما أنت فاعل ؟
قال فهد : وهل تظن أن في اشتياقه سر ما ؟!
قال : كل الأسرار يختزلها أمر واحد, هو الفضائح وما تسرده أنت من أخبار
بخصوصها , وقد عرفها القاصي والداني .
قال فهد وهو يبتسم : اذن لابد من الذهاب اليه .لأكمل فضائحه هناك , وأمام
الملأ , من يحضرون أمامه .
قال سعد )بتخوف( : لايافهد ... ذلك الرجل شيمته الغدر , ثم انه يطلبك بالأسم
.... دعني أذهب بدلا عنك , لأنني على دراية بكيفية التعامل معه .
على مشارف ولاية الناصرية, تمكن سعد من اقناع الشرطي الخيال بضرورة
مفارقته لحين من الوقت , حتى يلتقيه لاحقا عند بوابة بناية متصرفية الولاية .
الوقت كان يشير الى الصباح , حين التقى سعد بصديقه أبي نوفه في ذلك
المقهى وأخبره بمغزى هذا الحضور .
ولكن ذلك الصديق الزمه بضرورةالذهاب معه .... فكان الجواب لذلك هو الرفض ,
وعاد أبا نوفه ليقنعه بضرورة أخرى لا يمكن التنازل عنها , عندما قال : سوف
أتعقبك من بعيد .
في سراي الولاية .... عبد الجبار يقتحم حجرة المتصرف ,حين كان منشغل بامور
تخصه , حينها اقترب منه وهمس بأذنه لوجود بعض الغرباء , من كان يحضر
مجلسه .... أصابته الدهشة ولكن حاول اخفاء ما ظهر من تعبير على وجهه .
أشار المتصرف الى عبد الجبار بالانصراف , وبخروج أولئك الرجال من حجرته وعودة
عبدالجبارللظهور من جديد , قال المتصرف :
 أعد على مسامعي ما قلته قبل قليل .
قال : سعد آل منصور في الحجرة المجاورة , يجلس هناك .
قال)باندهاش ( :ماذا يريدهذا..... ولكنني أريد فهد , فما حاجتي لهذا ؟!
قال )بذكاء( هي تلك الحاجة التي تبتغيها من فهد .
قال )بحيرة( : كيف يكون ذلك ؟!
قال : سعد أو فهد ,كلاهما واحد ..... عندما يأتي سعد , فان فهد في أثره دائما .
نظر المتصرف بوجه عبدالجبار قليلا , ثم قال : انك ياعبد الجبار تملك الدهاء ,وأنني
لأظنك سوف تجلب فهد الى هنا.... ها هنا , انظر وأفعل ما استطعت الى ذلك
سبيلا .
خرج عبد الجبار وقد حيا المتصرف تحية الانصراف .
وبعد حين ..... قَدِم سعد آل منصور على متصرف الولاية , أراد المتصرف أن يقدم
له بعض فروض التقدير , تحسبا منه أن تكون أحاسيس قد تولدت في نفس
القادم ,وشعور بأن شيئا مريبا قد دبر بليل , فيحاول أن يبعد تلك الولادة من
نفسه حين أجلسه مجلسا قريبا منه .
نهض المتصرف من مكانه , وهويحمل علبة سكائر يحاول فتحها , ليستخرج منها
سيكارة , يحاول أن يدفعها الى سعد وهويقول :تفضل , انها من صنف فاخر ,
يأتوني به من ولاية بغداد .
رفع سعد يده قرب حاجبه, حين أراد شكره لأشعاله تلك السيكاره .
جلس المتصرف على مقعد له أمام سعد وراح ينفث الدخان من فمه ببطأ , بدأ
يتحرك في مكانه عندما أراد القول : أحاول.. أن أفهم منك , وكم كنت أتمنى أن
أسمع ما أريد سماعه من فهد شخصيا , ولكن ... أظن انكما واحد .
قال سعد : كما قلت ياجناب المتصرف ..... ماتريد أن تسمعه , فسوف يأتيك مني
.
قال: ما الذي حصل ... في ذلك اليوم , قل لي كيف قتل ناصر العاصي ؟
قال سعد )في هدوء( : أعلمت أين مات , وفي أي مكان ؟
قال )بأستغراب( : ماهو قصدك حين تقول ذلك ؟!
قال : ايها المتصرف , ناصر العاصي قتل وهوليس في فراشه ينام , وفي ديار غير
دياره , اذ كان غازيا , ومن يقتل وهو في حالة كالتي كان فيها العاصي ,فان دمه
مهدور .
قال المتصرف : ولكن .... ولكن ياسعد , هولاء ...
قطع سعد حديثه قائلا :لا ياجناب المتصرف .... عندما يكون فهمك للأحداث على
هذا المنوال , هولاء ... هولاء .
صمت سعد قليلا ثم أردف قائلا : كذلك أنا سعد أل منصور أقول لك , نحن , وأنت
تعرف من نحن , لسنا دعاة للشر, ولكننا نقف بوجهه, ولا نأسف على أرواحنا ان
ذهبت ثمن لذلك....... ناصرالعاصي أراد سلب شرف فهد, وما قيمة الانسان اذن
لو سلب شرفه ..... عليك أن تسأل الدنيا بأسرها , ما عنوان من يدافع عن شرفه
.
ياجناب المتصرف , هذا كلام أوله وآخره ينتهي الينا . فلا تحاول أن تصطنع الأعذار
امن يرد أن يقتل الحياة .
قال المتصرف )بذكاء( : يا سعد أنا لست قاضيا, عليك أن تعرف ذلك .
أمام بوابة السراي الكبيرة..... وقف أبو نوفه وهوينتظر خروج ذلك الصديق من بين
الخارجين من المبنى , وهم قليلين في زحمة اللذين ينفذون .
فجأة.... بان السرور على محيا وجهه ,عندما كان سعد برفقة متصرف الولاية ,
يخرجان من الظل الى حيث نور الشمس ليتمكن من رؤيته..... مر رجلان بقربهما ,
عندما أراد المتصرف مصافحة سعد لوداعه , وبعد خطوات خطاها الرجلين , عاد
أحدهما ليقف أمام سعد ويركز النظر فيه قليلا ....صاح الرجل :أيها الناس اعلموا
لأن هذا الرجل قد قتل كبيرنا ناصر العاصي.
كان أبو نوفه على مقربة حين أراد التدخل , ولكن سعد أشار له بعد ذلك, عندئذ
تراجع ووقف جانبا , ورح يستمع لقول سعد :
 أيها الرجل , هل سبق أن رأيتني ؟
قال : وكيف لا , وصورتك لم تفارق رأسي منذ أن شاهدتك , يوم قتل ناصرالعاصي
.
التفت الرجل الى متصرف الولاية: ياجناب المتصرف , هذا الكلام قدجرى أمامك ,
والرجل هذا يقف أمامك .
قال المتصرف :يا سعد هذا الرجل يصر على اتهامك أمامي , لتأتي معي , الى
مكتبي ,ليتسنى لنا جميعا أن نعرف ,ما الذي يجري .
لكن ذلك المتصرف كان على علم بتدبيرسوف يقوم به مستشاره عبد الجبار ,
وهذا أوله كما يبدو.
عاد أبو نوفه الى مقهاه , ووشائج الحزن يعتصر قلبه , ماذا سأفعل .... قالها وفي
نفسه غصة ,وهم قد غلف كيانه .
ثمة أفكار بدأت تراوده..... وحين اهتدى لأحدها ,قال ... سوف أرسل ابنتي )نوفه(
الى بيت المتصرف.... أجل الى ابنته لتذكرها بما فعل سعد من أجلها في ذلك
اليوم .
ولكن ..... أنا,ماذا ... هل أبقى على جلوسي هذا ؟...أريد أن أراه و كيف هو الآن
؟ نعم ... نعم , كيف يتسنى لي أن أنسى) يعقوب( وهورئيس الحراس في
السجن....نعم سوف أذهب الى هناك , لعلني أجده .
عبر بوابة بنايةمتصرفية الولاية, وصل حامد الى مكان قريب من سجن الولاية ,
وهويتحرك في أرجاء البناية ,وبأهتمام شديد كان يبحث عن ضالته عبر زوايا المكان
، حيث انه يريد رؤية )يعقوب(.
من بعيد لمحه , وهويمارس سطوته على نزلاء السجن .... انه يعشق نفسه
,عندما يكون صوته مرتفعا وهويحاول لجم هيجان السجناء, والذي يحدث بين
الفينة والأخرى ....... أنهى يعقوب وصلته المعتادة قبل نهاية العمل , وقد أتقنها
,فهو يمارسها كل يوم طيلة سنوات خدمته في هذا المكان .
جاء يعقوب والعصى بيده , يلوح بها وكأنه يسلي نفسه, حتى وصل الى قرب من
حامد , والذي كان منتظرا له , ابتسم يعقوب ابتسامة بيضاء , كانت وسط مساحة
من وجهه الأسمر.....قال وهويرى حامد : حمدا لله أن لازلت تذكر يعقوب .
قال حامد : كيف الحال يايعقوب ؟
قال يعقوب وهويمسك بذراع يعقوب : دعك مني , وتعال ندخل حجرتي , ونشرب )
استكان ( من الشاي .... لقد أعددته للتو , ولكن لا يشبه الشاي الذي .......
قاطعه حامد قائلا : لم أتي الى هنا لشرب الشاي ...... اسعع يايعقوب , لي
عندك حاجة , أريد أن أزور أحدهم , فماقولك؟
قال : أقول غالي والطلب رخيص .
قال حامد وفي صوته تهدج من شدة الحزن : لا.... لن يكون الطلب رخيص .
قال : ها.. من يكون هذا ؟!
قال : انه سعد آل منصور .
قال : سعد آل منصور بنفسه ؟!
قال : هل تعرفه ؟
قال : ومن لا يعرفه , ان لم يكن بالشكل , فالأسم وحده يكفي..... لقد سمعت
أنه في سجن الولاية وقدأدخل قبل ساعات , ولم يتسنى لي رؤيته .... أقصد
معرفته..... لاعليك ياأبا نوفه , غالي والطلب غالي .
عند بوابةالسجن الحديدية , وقف يعقوب وراح ينادي بصوت عال ..... أين
المسجون سعد أل منصور ؟
غادر يعقوب المكان قبل أن يصل ذلك الذي نودي عليه..... قال حامد عند رؤيته
لسعد وقد بدى حزينا : كيف حالك ياأخي ؟
قال: حمدا لله على كل شيء.... قل لي ماذا فعلت ؟
قال : لقد صنعت شيئا قد لا.......
صمت حامد قليلا , لكن سعد قد علم مقصده من الكوت , عندها قال : ربما لا
يعجبني ؟
قال :هو كذلك ... أنني أرسلت ابنتي )نوفه( الى بيت متصرف الولاية....
قال سعد )وفي نفسه لهفةللصراخ , ولكن حاول عدم ظهورها ( :ماذا فعلت
ياحامد , أنت تصنع هكذا ؟! وهل وصل الأمر الى حد نستغيث بالنساء ؟! ...
عجبالك, تستغيث بمن استغاثت بي وبيك قبل أيام مضت , ولكن يبدو أن الدنيا
أصبحت هكذا .
قال حامد : من لهفتي عليك ,أظن أنني فقدت ادراكي بالصواب.... من لهفتي
عليك .
قالسعد : بل فقدته حقا .
قال حامد وفي صوته نبرة ترجي : بالله عليك قل لي ماذا أصنع ؟
قال سعد : اسمع مني .... أريدك أن تذهب بنفسك الآن , ولا تقف حتى تصل الى
ديارنا .... أظن انك تعرف ما يكون بعد ذلك .
قال حامد : نعم .. نعم أعرف جيدا .
لم يكن الأحساس بالقلق الذي يطبق على تفكير فهد قد جاء عبثا ,لأنه يدرك
سلفا ما يضمره متصرف الولاية له ولذلك الصديق الغائب سعد إن تمكن من امتلاك
فرصة مالتحقيق نشوته بالانتصار.
كان هذا حديث دائر بين فهد وزوجته جميله , يحدثها بتلك الهواجس , معلنا لها
ذلك القلق .
ابتسم فهد حين تذكر شيئا قاله سعد ذات مرة , وأراد اسماعه لزوجته ....
أتعلمين ياجميله, قبل زواجنا كان سعد يسمعني اسمي ولكن بكناية , يناديني
ياأبا أحمد ... كم أحببت هذا الأسم , فقلت وأنا أطلب من الله ,إن رزقت بمولود
ذكر , سوف أمنحه اسم أحمد.
صمت فهد قليلا ثم أردف قائلا : اعلمي ياجميله أن الطريق الذي أسير فيه نهايته
بعيدة , وسالكه كثيرا ما يصاب بالتعب , وربما بالاعياء .... لقد ولدت في زمن غير
واضح المعالم ,فان جاء ولدي,عليك أن يجعليه يطلب العلم , العلم سوف ينور
طريقه .
كانت جميله وهي تستمع لهذا الحديث , تتصارع مع دوامة من الأسئلة , قالت :
الى أين تذهب بكلامك هذا ؟
قال : أريد أن أتحدى القيود التي تحيط بحياتي , لأنطلق بها نحودروب التحديات .
تلك بقايا كلمات قد كانت في خياله , حين قالها لرفيقة دربه القادم ,كانت تظن انه
سلك المجهول بالنسبة لها , وهويظن أنه يريد انقاذها من غفلة الأيام عندما
تنسى أحدا .
بعد تلك الرسالة التي جاء بها حامد , ما انفك فهد واقعا تحت تأثيرالأشياء
المبهةالتي تحصل, لكونها عديدة وحصلت دفعة واحدة.
جرت العادة عند فهد, انه يمتلك القدرة على كتم انفعالاته , ولكنه الآن فقد خرق
العادة ,اذ بدى وكأنه قد سقط من شاهق.
لاحظ حامد ما كان يجري مع فهد .... لكنه قال , عندما ساله حامد عما
ستفعل......ياحامد ,من بين عدة أشياء مبهمة ,توجد منطقة وضوح, فيمكن من
خلالها أن نجد الحل .
انهم في طريقهم نحو ولاية الناصرية, وقد اصطحب فهد معه ابن أخيه فاضل
وصديقه راضي وعدد آخر من الفرسان من أولادعم سعد.
عند مشارف ولاية الناصرية, قررالمكوث في بيت حامد لاقرلرما يمكن أن يقوموا به
.
وفي غفلة عن العيون التي تمارس الأضطهاد  حين ترصدحركات النفس التواقة
الى الحرية ,تلك العيون المأجورة بثمن بخس والتي ما لبثت تقاوم النعاس في
الليل والنهار امتلك فهد ورفاقه الخطوة الأولى لفك الأسوار التي أحيطت حول
سعد آل منصور ، تلك الخطوة تتمثل بالاتصال برئيس الحراس في سجن الولاية ,
وهو يعقوب , رغم انه لايملك مصدر رزق سوى وظيفته تلك , الا انه على استعداد
لخوض غمار تلك التجربة , حين أخبره حامد بما يريدون القيام به .
زار يعقوب بيت حامد , والتقى هناك بفهد , حينها اتفقوا أن ليلة الغد ستكون ليلة
التنفيذ لما اتفقوا عليه .
وجاء الغد...... وقد أعلن بما لايقبل الشك ، أن الليل هو نهاية نهاره .
وتحت جنح الظلام الذي خيم على معالم الولاية .....اولئك المغامرين لأجل
العشق , اللذين أيقنوا أن العيش بجوار الطواغيت ,يبدوعبثا,لذا اتخذوا طريقهم
نحوبقعة الضوء العائمة في نهاية النفق .... متجردين من كل شيء, سوى
أحلامهم التي ما عادت الأماكن تحتويها.
كان أول المغامرين وثانيهم , هما فاضل وراضي .... أرادوا أن يلعبوا أدوارا على
مسرح تلك الليلة المجنونة.
حين اقتربا من بوابة بناية المتصرفية , حيث سجن الولاية , افتعلوا شجارا مميتا
بينهما , مما جعل حراس البوابة الخارجية يتدخلوا لفك اشتباكهم الدموي ..... هذا
التدخل العفوي قد قذف الفرصة في ملعب فهد ومن كانوا معه , للدخول الى ذلك
المبنى عبر بوابته .
في داخل المبنى ..... تم تنفيذ الجزءالمنوط برئيس الحراس ... هل ينجح يعقوب
في الاختبار ؟ النتيجة قد حددتها عملية الاقتحام, والتي قام بها فهد ومن كان
معه الى حجرة الحراس.....صاح يعقوب بخوف مصطنع :
 لكم ما تريدون , ولكن لا تعتدوا علينا .
أيقن فهد بأن يعقوب قد نجح في الاختبار في تلك الحفلة الليلية, عندها نظر فهد
نظرة غاضبة من خلال اللثام الذي يغطي معظم وجهه وكذلك بقية رفاقه.
صاح به: أريد مفاتيح أبواب السجن أن تكون معك , وأنت ذاهب معي الى هناك .
قال يعقوب بذعر : لك ما تريد , ولكن لا تؤذيني , حبا بالله .
قال فهد : لاتخف , نحن لم نأتي لنلحق الأذى بالآخرين ..... هيا تقدم أمامي .
في تلك الأوقات ... لو علم متصرف الولاية , بما جرى في هذه الليلة , لما هجع
على فراشه ,لأن سعد قد أصبح خارج الولاية , بعد أن ودعهم حامد على
مشارفها لأنهم قرروا طلب الهدوء لأنفسهم في ديار أبي فاضل .
عندما كاد الفجر أن يودع آخر خيوط الليل , وصل ذلك الفارس الى ولاية الناصرية
قادما من ديار سعد , يحمل خبر أراد ايصاله الى كبيرهم سعد ...... وحين التقى
به حامد , أخبره .... أن الركب في طريقه الآن الى ديارأبي فاضل , ولكن إن
أجددت السير , ربماستلحق بهم قرب منطقة تقاطع الدروب .
أصبح الوقت ضحى , ولابد للخيل أن تأخذ قسطا من الراحة.... قال فهد والجميع
على ظهور
الخيل : دعونا نترجل , لنقضي ساعة نتوقف
فيهاللراحة , ثم نكمل المسير , فاننا على مشارف تقاطع الدروب ..... هذا الدرب
يأخذنا الى ديار أبي فاضل , وذلك الدرب يؤدي الى......
انتبه سعد , ونظر الى فهد , عندما أحس باختلاف في نبرة صوته , فوجد أن شيئا
قد لفت انتباهه , نظر سعد حيث كان فهد ينظر .
ثمة فارس قادم من جهة الغرب........قال فهد:
 هذا الفارس كان يتبع أثرنا , ويحاول اللحاق بنا, وأظنه كان يبغي الوصول الى
منطقة تقاطع الدروب .
قال سعد :أتظنه يحمل خبر ما ؟
قال فهد وهويتبع أثر الفارس القادم : بل أظنه يحمل خبرا جلل , إن صدق حدسي
.
قال سعد : وكيف يكون ذلك ؟
قال فهد : هذا الفارس قد علم في أي طريق نحن نتجه ,وأظنه قد جاء من ولاية
الناصرية , لكنه اتخذ طريقا آخر , لكي يصل قبلنا الى هذا المكان... وأظن الذي
أخبره بذلك هو حامد .
اقترب الخيّال ,ولكن اللثام الذي يغطي معظم وجهه,يمنع من معرفة, من يكون .
ترجل الخيال من علىظهر جواده, وبدأ يفك النقاب عن وجهه أثناء خطواته وهويتجه
نحو الواقفين .... السلام عليكم , قالها الخيّال بعد أن بانت ملامح شخصه .
رد السلام من كان قريب ...... لقد عرفه سعد , واقترب منه قائلا : هاشم ! ما
ورائك ياابن العم؟!
قال هاشم بوجلٍ : أرادت أن تكونا أنتم الأثنين بقربها .... طلبت مني أن أصل
اليكم مهما كلف الأمر لأخبركم برغبتها تلك .
قال سعد بلهفة : أمي ياهاشم أليس كذلك؟ ..... هل هي ......؟
قال هاشم لست أدري ماذا أقول .... لقد تركتها بين بين .
قال سعد , وفينبرة صوته تهدج : مابين الحياة والموت , اذن انها المنية قدمت .
تلك كانت لحظات حاسمةفي حياة سعدلأنها أمه التي صامت دهرها عازفة عن
الزواج بعد وفاة زوجها منصور , ولكن فهد , كان لزاما عليه إن ينفذ وصية , كانت قد
أوصته بها ... تلك الوصية التي يتذكرها على الدوام , كلما رآى وجه تلك المرأة
الحنون .
قدغير الركب طريقه..... اتخذ مسارا آخر , يبتغي الوصول الى الديار التي يسكنها
الخبرالذي يجعل النفس تصمت وهي محدقة نحو عالم آخر يسوده الهدوء
اللامعقول .
جلس سعد .... وراح ينظر كيف سجى جسد أمه , ذلك الجسد الذي التحف لحدا
طوله عدة أشبار.... على مقربة منه , وبين من حضر , جلس فهد على
حافةالتراب المستخرج من القبر وهويسترجع سنوات عمره التي مضت..... راح
يشم رائحة التراب الخارج لكنها لاتشبه رائحة الموت , رغم انها لازالت تحتضن
أجساد الموتى ...... لقد بدا فهد يحدث نفسه :
لقد أوصتني بالحضور حين يدق الموت أبواب بيتها , ولكن الموت .... لا يدق الأبواب
, بل يدخل خلسة, لذلك أظن انني تأخرت قليلا , لا بل كثيرا ,فزمن الموت لا
يشبه زمننا.
ناقوس الخطرقد دق في حيز من التفكير الذي يمتلكه متصرف الولاية , حين أعلن
أن القادم من الأحداث سيكون صعبا, وكيف لا وقد اتحد طرفي القوة من جديد ,
بعدأن افترقا , وكما أدخله ظنه اليه ..... ما العمل اذن , هذا ما قاله متصرف
الولاية... ثم أردف قائلا :
 اني اهتديت الى مساحة من التفكير قد تؤتي أكلها .
حينها سير متصرف الولاية أعداد من خيّالة الشرطة ,مدججين بالسلاح , نحو تلك
الديارالتي لازال الحزن يخيم عليها ,ذلك الحزن الذي يبعث في النفس الوهن
....ولكن  أحيانا  يعطيها القوة , وتلك أحد الأسرار الكامنه في هذه الأرض , والتي
انتقلت لتعيش في نفوس ساكنيها .... وفي خضم أجواء الحزن تلك , وفيما اهل
الديار مجتمعون في مكان , اذ جاءهم المنادي كنذير وهو يقول :
 خيّالة من الشرطة ,وهم كثيرين , قد جاءو نحونا, لو نظر أحدا لهم ليظن انهم
قادمين لفعل شيء ما , فانظروا ما أنتم فاعلين .
أقدام بدأت تتجه هنا وهناك , وصوت احتكاك أجزاء البنادق مع بعضها ,يسمع ,
وهي تحمل على الأكتاف , أو بالكفوف أحيانا .
تعالت الأصوات وهي تصدر الأوامر , أوامر حمل السلاح .
وبعد ساعة..... أطبق السكون على المكان , وبدت الديار وكأن ساكنيها قد
هجروها..... خلف ذلك الجدار الطيني , كانت العيون ترصد الدرب القادم الى
القرية.... ولكن الصمت لازال يخيم خلف ذلك الجدار الطيني , لكن وقع أقدام على
الأرض قد بدأ يكسر السكون تدريجيا..... حين ارتفع صهيل الخيل , أيقن الجميع
من كان خلف الجدار ينتظر , أن أمرا سوف يحدث , ولكن لاأحد يعرف كيف يكون .
حين اصطفت الخيول ومن فوقها راكبيها , وهي قريبة من الجدار, تقدم قائد الخيالة
عدة خطوات , وهويقود حصانه بأتجاه الجدار .....
توقف هناك وبدا منادياً من فوق ظهر حصانه : يافهد .... أعلم انك تسمع قولي ,
نحن جئناكم لأجل غاية واحدة .... أن تأتي معنا , بأي طريقة كانت ,أنت تريدها....
ولكن إن لم نتمكن من هذه الغاية, سوف نفعل مانشاء .
كان فهد يستمع لمقولة المنادي السابقة , وهويستند بظهره على الجدار.... أومأ
فهد الى ذلك الصديق سعد بالقدوم اليه خفية . وبعد وصوله ...
قال له فهد : اسمع ياسعد , لي رأي أود أن تسمعه , وفكرة أود تنفيذها .
قال سعد بتشنج : اياك أن تقول.... انك تريد أن تقدم نفسك لهم , لكي يقبض
عليك !
قال فهد بسرعة وهويبتسم : لم أقل هذا ..... أريدك أن تسمع ....
من خلف الجدار , وهوجالس في مكانه, راح فهد يرفع صوته قائلا : أيها المتحدث
كائن من كنت , أني أعلم أنك لاتملك الخيارات في حديث آخر,غير الذي جئت به ,
سوف أظهر لك نفسي , وسلاحي معي , وسوف أعطيك اياه عندما أصل اليك ,
فما قولك :
ابتسم قائد الخيّالة بكبرياء .... ثم قال : لك هذا يا.... فهد .
قال سعد وهو يتحدث بتخوف واستغراب : ما الذي قلته , هل حقا تريد تنفيذ ما
قلته ؟!
قال فهد : لا عليك .... فقط اتبع تحركاتي , وسوف تعرف , ولكن إجعل قدرنا الذي
إخترناه هو المقياس .
قال سعد وقد هدأ باله : المقياس للقادم من الأيام ؟
هز فهد رأسه بالإيجاب , وعيناه تفيض وهجاً , لم يستطع سعد فهمه لضيق الوقت
.
خر ج فهد من خلف الجدار وإتجه نحو قائد الخيالة الذي كان يرصد حركته عن
كثب.... كان فهد حاملا بندقيته )الصليبية( من منتصفها .
وقف فهد أمام قائد الخيالة . مد القائد يده  وهويظن انه سوف يأخذها منه  لكي
يمسك بتلك البندقية , والتي كانت فوهتها تقترب منه, حين بدأ فهد يدفع بها
اليه..... ولكنه أزاح يده لكي يجعل سبابته تضغط على الزناد لتنطلق منها رصاصة
مدوية لتستقر في مكان ما من جسم قائد الخيالة , جاعلة اياه يترنح ليسقط من
على ظهر جواده .
سقوط ذلك القائد , قد أذهل الجميع , وبدى الكل في حالة ذهول ..... الخيول
اضطربت في أماكنها وتراجعت الى الوراء .
استطاع فهد أن يختبأ في مكان قريب , فيما علا دوي أصوات البنادق من الجانبين
...نظر سعد نحو المكان الذي يختبىء به فهد .
فأيقن بأن ذلك الصديق , يحتاج الى المساعدة , وبينما كان فهد منشغلا بتأمين
الحماية لنفسه , فوجأ وهويرى سعد يمتطي جواده ويجر خلفه آخر , وقد بدى
صائحا : تحرك يا فهد ... هل أعجبك المكان؟ ... هيا إستعد لتركب .
قال فهد متحدثا مع نفسه : ما الذي يفعله هذا المجنون ؟!
نهض فهد مسرعا وأستطاع أن يمتطي جواده لينطلق به , وسعد في أثره.....
ولكن ثمة أمر قد حصل , اذ انتبه قائد الخيّالة وعاد لوعيه  اذ أن الرصاصة التي
أطلقها فهد عليه لم تميته بعد  وتمكن من الأمساك بمقبض مسدسه ليخرجه
من الحافظة التي تحويه , ورغم بطىء حركته , الا انه تمكن من التصويب خلف
الهارعين بأتجاه الأفق ...... صرخة كبيرة أطلقها سعد وهوينادي
بأسم )فهد(...... التفت اليه , ليجد صديقه ورفيق دربه يعانق رقبة جواده ........
عاد اليه كما الصقر في سرعة انقضاضه .
أمسك فهد بلجام الجواد  الذي طالما حمل فارسه , وقد بدى وكأنه علم ما أصابه
 وأنطلق به مبتعداً عن الديار .
في ذلك المكان المرتفع , والذي يبعد مسافة ليست ببعيدة عن ديار سعد ........
ذلك المكان الذي كان يقي أهل الديار في بعض الأوقات من خطر الفيضان , أناخ
فهد جسد صديقه بخشوع على الأرض ,وقد أحاط بهم من جاء قبلهم من الفرسان
, بدأ فهد ينظر بوجه سعد الصامت بلا كلام ..... بدا يتحدث اليه قائلا : ماذا ياسعد
.... أنظر الي , هل تريد مفارقتي ؟ أم ماذا , حتي انك
لم تمنحني مزيدا من الوقت لأودعك....... ياسعد هل تسمعني ؟
انتبه سعد قليلا , حينها فتح عينيه باتجاهه, جلس الجميع عندما شاهدوا ذلك ,
وكأنهم أرادوا لسعد أن يرى السماء للمرة الأخيرة .
قال سعد )بصعوبة( : أظن أن الوقت قد حان ..... قد حان للرحيل .
قاطعه فهد والدموع تنهمر من عينيه , قائلا : وتتركني وحيدا مع آلامي التي سوف
تسببها لي برحيلك , وأني لأظن أن الدنيا سوف لاتسعني ... أعلم ياصديقي
أنني سوف أقيم عزاء لنفسي التي سوف تذهب بذهابك , داخل قلبي .
قال سعد : أتعلم هذه أول مرة أرى فيها دموعك تجري , منذ سنين معرفتي بك .
قال فهد : لأنك في هذه المرة ....
قال سعد : أجلسني بالقرب منك .
أجلسه فهد , وقربه الى صدره .... نظر سعد بوجهه ثم قال : هل ستسمي ولدك
)أحمد( كما أوصيتك .
قال فهد والعبرة تكاد تخنقه : نعم , نعم ياسعد .
قال سعد وهو يبتسم : أظنه سيكون أفضل حالمني ومنك .....
غفا سعد على صدر صديقه , حينها علم فهد أن صديقه قد فارق الحياة , راح
يتحدث اليه قائلا : كثيرة هي الأحداث التي تقع , ولكن عجلةالزمن تدور , وتخلف
ورائها تلك الأحداث وقد بدت قليلة التأثير , ولكن بموتك فأن الزمن قد توقف عنوة
بالنسبة لي في هذا المكان .
وبعد ساعات ثقيلة الوقع على النفوس التي فقدت لتوها , من كان لهابمثابة
الدليل في مأزق الحياة.
نظر فهد الى كل المعارف والأصدقاء , ثم انتدب اليه حامد ليتحدث اليه : أظن أن
الوقت قد حان لرحيل آخر .... أهل بيتي يخشى عليهم ولابد لهم من مكان ,
لايصل اليه الغدر القادم .
قال حامد : إن لي بستان في ولاية البصرة , وسط النخيل المنتشر هناك , لو
تمكنت أن أبدأ مراسيم نقلهم الى هناك , قد نصل في غضون أيام .
قال فهد : اذن عليك البدء بتلك المراسيم .
قال حامد :هل لي أن أعرف ما تنويه لنفسك .
قال فهد : سوف أركن لأبدأ التصالح مع نفسي , فقد كنت طوال تلك السنين لا
أبيح لها العذر , أظن أن الوقت قد حان لذلك .
اقترب فهد  من فاضل وذلك الصديق له, ثم أصبح للجميع , انه فاضل  وفي باله
بعض الكلمات أراد قولها :
 يا فاضل عليك العودة الى ديارك , لتبدأ أنت وراضي .... راضي الدي أرضى نفسه
قبل كل شيء , لأن من يري نفسه يكون سهلا عليه أن يرضي الآخرين ... أعملو
على نقل أخبارنا ,
التي أنتم عليها شهود, الى النفوس التي تحاول أن تعلو فوق ما هي عليه .
مدن متشابهة لا تتميز عن سواها الا في بعد المسافات التي تفصل فيما
بينها........ أدرك حامد والذي أوكلت اليه مهمة ايصال عائلتي فهدوشلال الى
ولاية البصرة, أن الطريق لازال طويل ,وهويسير بأوله ,وعليه اذن أن يجتاز أراضي
شاسعة وعوارض من المساحات المائية .
كان حامد كثر التفكير بمصير ذلك الصديق فهد , وأين هو الآن ؟ اذ تركه خلفه ,
يحاول فيما بعد اللحاق بعائلته.
فهد وبرفقته شلال كانافي طريقهما الى ولايةالبصرة ..... هم الآن بالقرب من
ضفة الهور , عند الحدود الجنوبية لولاية الناصرية , ولكن المساء قد جاء ,
عندهاحلوا ضيوفا على أحد سكان ذلك المكان , حيث قضوا تلك الليلة بضيافته....
وفي الصباح هيىءلهم قارباصغيرا من قوارب الصيد ليكملوا بواسطته رحلتهم ......
وقف فهد بالقرب من ذلك الرجل الذي استضافهم , قائلا له : ياابن العم , من أي
الأعمام أنت ؟
قال الرجل وهويقف على حافة المياه : من بني أسد .
ابتسم فهد وقال :لك الحق أن تفعل ما فعلته من كرم , فأنتم منذ زمن بعيد , كنتم
العون والناصر لمن أراد ذلك منكم , هذا جوادي هو لك , فاكرمه , فانه من سلالة
نقية .
وفي عرض مياه الهور , وحين كان القارب الصغير يغفوعلى سطح المياه , فان فهد
هو الآخر أخذته اغفاءه , اذ حاءه في
المنام , طيف صديقه سعد , ليخبره أن ما تبقى له من العيش في هذه الدنيا ,
الشيء القليل , وإن زمنه قد انتهى .
استيقظ فهد من منامه ليجد نفسه لايزال في القارب ممدد .... استعاد وعيه ثم
حمدالله وشكره أثناء حديثه مع نفسه :
 اذن هي النهاية .... النهاية التي لابد منها .
نظر فهد الى شلال , فوجده لم يزل نائما بالقرب منه .
الفصل الثالث
ولاية البصرة )أبو الخصيب(  عام 1947
أيام مرت واخرى تلتها منذ أن وطأت قدميها على الأرض الجديدة , وخطت أولى
خطواتها... هناك علمت أول الآثار في ذلك المكان المزدحم بأشجار النخيل .....
انها جميله زوجةفهد في ديارها الجديدة .
كل مساء وطيلة الأيام الماضية , كانت جميله تبحث ,وهي يسير بين
أشجارالنخيل عن صورة فهد الغائب عنها , فهي كتلك الأشجار , عندما تحاول
الألتصاق بالأرض .
وبعد شهور..... عاد شلال وحيداً ومتعباً , هموم الفراق لأحدهم واضحة وهو
يحملها , كما تحمل جميله في أحشائها بقية من حلم كان , ولم يعد موجود الآن ,
قدعلمت رحيل فهد الى الأبد .
لقد أضناها الشوق لرؤية القادم , متى سيأتي هذا الوليد؟
في ليلة من ليالي الشتاء الباردة , كانت جميله على موعد مع صراع المخاض ,
ذلك الصراع الذي جعل تلك الليلة طويلة , ذات وقع قاس عليها , فلم يك بقربها
تلك وتي , سوى سليمه زوجة شلال , وشلال عند الباب واقفا,يرى زوجته بين
الدخول والخروج ..... يسألها : هل من جديد؟ , فتجيبه :لم يحن الموعد .
وبعد حين..... أقرت عيني جميله برؤية وليدها , عندما جاءتها سليمه وهي تحمله
.... احتضنته الأم وطبعت على الخد قبلة طالما انتظرتها .
مدينةالبصرة  عام 1972
انها مدينة البصرة , وكم تعجبني ... كان يرددها) أحمد( دائما , كلما شاهد حركة
المارة المزدحمة في الشوارع , وسمع أصوات السيارات ,خلال مدة دراسته في
تلك المدينة .
محمد يقف على حافة الرصيف من الجهة الأخرى ,والتي تقابل بناية المدرسة ,
كان يحاول العبور منخلال الزحام الذي لا ينتهي , أوكما يتصوره هو.... بدأ يردد , ما
العمل اذن ,لابد لي أن أعبر...........
ركض مسرعا , اذ لابد له من الوصول الى ذلك المبنى , فاليوم هو موعد اعلان
النتائج للدراسة الثانوية .
وأخيرا استطاع اجتياز تلك المسافة , ليجد نفسه داخل المبنى , وأمامه زخم من
نوع آخر , حيث تراكم التلاميذ خلف لوحة الأعلانات , كان يعتقد انه الوحيد الذي
أصابته تلك المشكلة , ولكن يوجد الكثيرين من الطلبة ..... عندما تكون الحيرة
مشتركة , فان كل مشترك يحاول أن يبحث عن الحل بمفرده ,عندها تتشابك
الحلول وتتزاحم الأفكار .
حاول أحمد أن يصطنع لنفسه ارادة من نوع ما, واستطاع أن يخترق ذلك الزحام
الكبير الذي خلقته أجساد التلاميذ , وبعد غياب لعدة دقائق لايرى له أثر , خرج
والفرحة تغمره من رأسه حتى قدميه.
كان عليه الأسراع ليلحق بآخر باص متوجه الى مدينته )أبو الخصيب ( , فالوقت
يداهمه , ولابد له من الوصول الى والدته لكي يزف لها البشرى , لتشاركه الفرحة
، تلك الفرحة التي انتظرتها هي منذ سنوات , لتوف بعهد قد قطعته لزوجها ,
عندما كان يحلم ذات ليلة بحصول ولده على العلم .
في المرآب الخاص بوسائط النقل المغادرة الى مدينة )أبو الخصيب(, كان يخطو
نحو السيارة ذات الهيكل الخشبي الأنيق  الذي صنعته ايدي أمهر النجارين 
والتي تستعد لتنطلق في رحلة , هو كان يتصورها, رحلة قد اختلفت عن باقي
الرحلات التي قام بها , اذ كان يحمل هذه المرة قلبا تغمره السعادة التي لاتوصف
.
انطلقت السيارة وأحمد قريب من النافذة يجلس ,مع مجموعة من الوجوه التي
توحي ببساطة أصحابها, كانوأ يبتغون الوصول الى بيوتهم , بعدأن قضوا ساعاتهم
في المدينةالكبيرة .
من خلال نافذة السيارة , أخذ محمد ينظر وقد لفتت انتباهه رسو تلك المراكب
العملاقة في مياه شط العرب ,تلك المراكب التي طالما أدخلت في نفسه السحر
لعظمة بنائها , وكم كان يتمنى الأقتراب منها , ليعرف ماذا يكون بداخلها, لكنه
لايستطتع ,اذ ليس هناك من أحد يستطيع أن يفعل ذلك , سوى العاملين فيها ,
ولكنه عندما يستطيع امتلاك الوقت , فانه لايتماهل في استغلال الوقت
لرؤيتها , اذ كان يجلس على حافةالنهر الكبير ليشاهدها عن كثب .
جاء مسرعا , يبتغي الوصول الى أمه أولا ..... في باحة الدار التقى بابنة خاله
شلال , وهي تمسك بسعفة نخيل ,تحاول تنظيف المكان مما علق به من أوراق
الشجر المحيط بالمكان ...... تحدث اليها وهويجد السير عن مكان تواجد أمه ,
فأشارت اليه....
كان باب الحجرة مفتوحا , وقف عندعتبته , حيث يرى أمه , ثم قال : أماه .... اليوم
آن لك أن تفرحي , فلقد استطعت أن أحرز النجاح وبدرجة عالية .
نهضت جميله من مكانها وقد امتلأت نفسها بشعور جميل , بين الفرحة والبكاء
,وبين الصمت والكلام , حتى قدميها تكاد تكون غير قوية بما فيها الكفاية لحملها
.... خرج أحمد الى فناء الدار وبدأ ينادي قائلا : ياخال شلال... ياخاله سليمه , أين
أنتم ؟
خرج شلال وخلفه زوجته سليمه من حجرتهما, وهم ينظرون بأتجاه أحمد .....
وجميله التي خرجت لتوها....رفعت صوتها لتقول :
 أحمد ياشلال نجح .... نجح .
صاح شلال في مكانه : ولم تقل لي ياولدي .
هرع شلال نحو محمد وأحتضنه , ثم راح يقبله , فيما علت الزغاريد التي أطلقتها
سليمه.... ابنة شلال سارت نحو أمها لتقف
بقربها وهي مبتسمه .
قال محمد قرب خاله : ياخال أني على موعد مع كلية الطب , سوف أكون طبيبا ,
ألم يكن هذا ماتريده , عندما كنت تزور المشفى.
قال وهوفرحا : أجل ياولدي , أجل .
التفت محمد الى أمه قائلا : لقد حصلت على العلم كما تمنيتي .
كان محمد على موعد مع تحقيق الحلم الذي نما بداخله , كما كان ينمو هو مع
الأيام والسنين, فاليوم هو أول أيام دراسته في
كلية الطب ...... وحين ودع محمد أمه وخاله شلال , أراد الوصول الى مدينة
البصره , لكي يستقل القطارالمتوجه الى مدينة
بغداد .... وبعد رحلة دامت أثناعشرة ساعة ,قضاها جالسا على مقعده في ذلك
القطار .
وصل أحمد الى مدينة بغداد , حيث أصابه الأنبهار عند رؤيته اياهالأول مرة ,فقد
رآها بعين ,أراد من خلال هذه الرؤية أن
تدخل تلك المدينة الى قلبه مباشرة .
طوال مدة دراسته في كلية الطب , استطاع أن يكون مميزا دائما بين اقرانه من
الطلبة , لذلك فان سنوات دراسته انقضت بسهولة , وهاهو عند أبواب
السنةالأخيرة من تلك الدراسة .
كانت الساعة المعلقة على حائط المطعم الخاص بأطعام الطلبة تشير الى الثالثة
عصرا , اعتاد أحمد
في هذا الوقت على تناول طعامه, وحين كان يقف أمام عامل المطعم , وبعد أن
أخذ منه طبق الطعام الخاص به حاول أن يستدير , ولكن ثمة فتاة كانت خلفه
مباشرة , فاصطدم الطبق بها , ليتعود محتوياته فتنسكب على ملابسه , تلك
الحادثة جعلت الفتاة تعيش حالة من الأحراج ولفترة قصيرة ,ولكن عندما أبدى
أحمد بعدم الأكتراث بما حصل لانشغاله بذلك الصفاءالذي يملكه وجه الفتاة ولون
عينيهاالذي امتلك سحرقد أثر به بشكل غريب , وبات لايسمع كلمات
الأعتذارالتي كانت تتلفظ بها الفتاة قبل قليل .
أرادت الفتاة تنظيف القميص بمنديل خاصتها ,لكن رفض أحمد جعلها تصرهي
الأخرى على استبدال الطعام المنسكب بآخر غيره , وبعد أن أتم لها ماتريد ,
جلسا الأثنين معا , حين اتخذا مجلسا لهم داخل المكان ..... قالت الفتاة وهوتلوم
أحدهم :
 لولا زيارتي لقريبتي التي تدرس الطب , لما حصل ماحصل لك , ورغم ذلك , لم
تأتي بعد .
قال أحمد : ولكن ! لا أحد يمكنه البقاء الى هذا الوقت وقد تجاوزت السساعة
الثالثة عصرا في تلك الكلية .
قالت الفتاة : وما أدراك أنت ؟!
قال : لأنني احد طلبة هذه الكلية , وفي السنة الأخيرة ,
ابتسمت الفتاة وقالت :ولكنها .... في السنة الأولى من در استها , انها أبنة
خالي , ولازالت غريبة بعض الشيء عن المكان , انها من أرض الجبال , من مدينة
السليمانية .
قال : انها كوردية اذن ؟!
قالت الفتاة : نعم ... وأنا كذلك .
قال : أنت ؟!
قالت : أنا , وما الغريب في ذلك ؟
قال :تتكلمين العربية أفضل مني .
قالت :وهل أنا من أهل القمر...... أنا عراقية قبل وآخر كل شيء .
قال : نعم , نعم ... قولي لي ياعراقية , ما أسمك ؟
قالت الفتاة : أسمي !.... أسمي نازك , وفي السنة الأخيرة أيضا , ولكن في كلية
الآداب .
قال : أسمي أحمد , وكما عرفتي دراستي , أسكن في مدينة البصرة , في
مكان يدعى )أبو الخصيب( قبل أن آت الى بغداد .
لم تكن تلك الحادثة التي حصلت لأحمد نهاية معرفته ب)نازك( , بل توالت اللقاءات
, وتوطدت العلاقة فيما بينهما, فأصبح لايمر يوم الا ويراها , كان يحدثها عن
الماضي الذي ورثه عن أبيه وعن أمه وما فعلت في تلك الأيام الماضية.... وكانت
هي الأخرى تحدثه عن بيت أهلها في القرية المطلة على الوادي , وعن الجبال
وأشجار الجوز , وكيف هي منتشرة في كل مكان , على سفوح الجبال .
بغداد  سنة 1968
منذ وقت طويل , وأحمد في حالة الإنتظار لموعد طالما أراده أن يكون , ويبدو أن
الموعد قد حان, فاليوم سوف يتم منحه شهادة علمية في الطب كي يصبح طبيبا
, أما نازك , فهي الأخرى قد حصلت على شهادة التخرج من كلية الآداب .... لم
يكن مهما من حضر عند من , بل كان الأهم أنهم التقيا , عندها قال أحمد :ماذا
تودين أن تكوني في عملك ؟
قالت نازك :اني أهوى التعليم , أريد أن أشارك اآخرين تعليمهم , وتلك كانت
رغبتي .
قال أحمد وهو محرج نوعا ما : اذن ياحضرة محترفة التعليم , هل لك أن تسمعي
رغبتي ؟
قالت : وهل لك رغبة غير أن تكون طبيبا ؟!
قال :نعم , وتلك أعظم .... رغبتي هي الزواج بك, فما قولك ؟
أحمر وجه نازك خجلا ... نظرت الى أحمد بزاوية معينة , ثم قالت : هل
باستطاعتك أن تتسلق الجبال لتصل الى أهلي ؟
قال : بل أصعد الى ماهو أعلى من الجبل .
قالت وهي تضحك : وما هو هذا الشيء ؟!
قال )ضاحكا( : لا أعلم.
(
وبعد مرور سنة .....
عاد أحمد من عمله , ليجد زوجته نازك تقوم باعداد الطعام , لم يكن حضوره هذا
اليوم يشبه حضوره المعتاد الذي يمارسه كل يوم .... عندما جلس قريبا منها
سالته قائلة : أراكعدت على غير عادتك كل يوم , هل من سبب؟
قال : نعم , فاليوم جاءني أمرا للعمل في مستشفى آخر , ولكن لو تعلمي أي
نوع هو من المشافي؟
قالت )بانتباه( : أي نوع ياأحمد ؟!
قال : في المشفى الخاص بمرضى السل الرئوي .
قالت وقد بهتت : أين ؟! ... هل حقا ما تقول ؟
قال وهويبتسم : نعم , كما قلت لك .
قالت : وتبتسم ياأحمد ؟!
قال : ولما لا.... ياعزيزتي , الطبيب يعمل حيث وجد المرضى , في أي مكان يكون
الناس بحاجة اليه , فالطبيب رسول رحمة , وهل ثمة شيء أكثر تأثير من الوصول
الى طريق الرحمة , ونحن عادة , ونحاول دائما أن نمر في طريقها لأنها مرتبطة
بالسلوك الفطري للانسان , ثم أن الرحمة تجعل الطريق واضح المعالم من أجل
رؤية الأشياء .... يانازك أنا انسان , وهولاء المرضى بشر أيضا..... لاعليك سوف
أطهر نفسي بالمطهرات جيدا , عندما أعود اليك ,إن كنت تخافين.
في أحد أيام عمله , وبينما هو جالس خلف مكتبه في عيادته في المشفى , فتح
الباب ليدخل مدير المستشفى ,ما إن رآه أحمد , حتى نهض من مكانه قائلا :
أهلا دكتور ..... تفضل هنا أجلس .
قال المدير بعد جلوسه :لك الشكر , دكتور أحمد .
ارتسمت الحيرة على وجه المدير , وكانه قد اضاع الكلام الذي اراد قوله , وأبت
الكلمات أن تخرج من فمه , نظر أحمد الى ذلك الطبيب , وحينها شاهد أحمد ما
أصابه قال : دكتور , هل هناك شيء تريد قوله ؟
قال المدير : نعم .... خذ هذه .......
كان المدير يحمل ورقة بيده , حاول اعطائها الى أحمد .... بدأ بقراءتها , ولكن ,
استغراب شديد قد انهال على كيانه , جعله يتسائل , حين وجه كلماته الى
السخص الجالس أمامه ,قائلا : دكتور , ما هذا الذي قرأته للتوفي هذا الخطاب؟!
قال المدير : هو ما قرأته..... انه خطاب من أعلى المستويات في الدولة , يطلبون
فيه حضورك الى هناك .
قال أحمد :لكني طبيب , ما علاقتي أذن بذلك المكان .
قال المدير : لاأعلم شيء ..... سوى استغرابي من طلبهم الذي يطلبون ........
لم يكمل ذلك الطبيب كلامه , اذ اضطر للخروج مرغما , وكانه لايريد البوح بالمزيد
..... أدرك أحمد أن ثمة شيء خطيريدبرفي مكان ما , وفي نية أحدهم أن يشركه
فيه , ولكن ماعساه أن يكون؟
كان لابد لمحمد من الذهاب الى ذلك المكان , لكنهم يريدونه أن يأتي بمفرده
أولا..... حين أدخلوه على أحدهم ....
قال الرجل : تفضل دكتور أحمد .
جلس أحمد في وجل, وهوينتظر ماسيقوله ذلك الرجل الجالس أمامه ........ قال
الرجل :
 نحن اخترناك بعد أن عرفنا انك من الأطباء المميزين في مجال عملك , نريد منك
شيء يمكنك تنفيذه بسهولة .
قال أحمد : صحيح اني لا اعرف ماذا يكون هذا المكان , لكني أستطيع أن أمنح
عقلي فرصة الأستنتاج , بما أنني طبيب , فهذا المكان لا يمكن أن يكون حقل
للتجارب , رغم أني لا أعرف ماهي المهمة التي سوف أنفذها .
قال الرجل : سوف أسهل عليك طريقة التفكير .... نحن نحاول أن نجعل هذا البلد
هادئا .... لانريد لبعض الأصوات المزعجة أن..........سوف أقولهابطريقة أوضح ,
بعض المفسدين ممن يحاولون خلق أجواء من التوتر في هذه البلاد الهادئة , او ما
نحاول أن نجعلها كذلك , هولاء المفسدين يعانون من عقدة اسمها الحياة , ونحن
نحاول أن نقضي على تلك العقدة لديهم ..... نريد أن تستضيفهم في المشفى,
حتى يتم اللقاء الحميم مابينهم وبين المرضى لديك , ولكن
بالابتعاد عن شيء اسمه الدواء , وأنت تفهم تماما ما أقصد .... دكتور أحمد .
نهض الرجل , ففعل أحمد كذلك .... قال الرجل : أحد الأشخاص سوف يرافقك ,
ليقوم باجراء اللازم .
حين عاد أحمد الى مقر عمله ,لم يعد هناك شيء يشغل باله الا ماتورطت به
نفسه من حيث لايدري, ولم يكن ليعرف كيف جاءه هذا الحظ العاثر وهوفي بداية
حياته , حتى انه لايملك الحلول
لقد لتلك المشكلة ..... هل ينفذ ما طلبوه , إنه أقسم عند تخرجه أن يحافظ على
الحياة , لا إن يقتلها كما يريدون ..... وهل يشارك فعلا في قتل بعضهم, وهو حتى
لايعرفهم , وكم عددهم , ماذا فعلوا حتي يموتوا بهذه الطريقة المبتكرة .... أظن
إن من ابتكرها , سوف يلاحق الجميع
ليعد عليهم ساعات حياتهم ساعة بساعه ,لماذا يحاولون أن يجعلوا من
حياتناجسورا ليعبروا من خلالها الى ضفة الضياع ويصرون في ذلك أصرارا مخيفا
على مشاركتنا واياهم .
قررأحمد , أخيرا بأنه لايمكن أن يبيع تراثا ورثه عن أبيه, وبثمن بخس اسمه
الخوف.... استخرج ورقة وكتب فيها بعض كلمات لزوجته, كان قد أعطاها أثناء
خروجه من المشفى الى مديره ليوصلها الى من كتبت له تلك الكلمات .
غادرأحمد المكان , ليتوارى في عالم آخر لونه رمادي , ليضيف سرا آخر الى أسرار
أبيه السابقة والتي تنتظرمن يحل لغزها.
وبعد بضعة أيام :
عادت نازك  كما أوصى أحمد في خطابه اليها  الى حضن أمه جميله , لعلها تجد
هناك بداية لحياة جديدة , أرادهو أن يبتدأ معها تلك الحياة .
لو أن الحياةأصبحت هكذا ,محطات مغادرة ووداع , بعضهم يودع بعضا , وأحيانا بدون
سابق انذار يأتي الداعي للرحيل.
من أين تبتدأ اذن , وقدأصبح كل شيء يبدو لها غريب , لم تتعرف عليه سابقا ,
لماذا يستوجب عليها أن تصارع في مواضع هي تجهلها , وهل عزفت الدنيا فعلا
عن منحها المساعدة التي
تريدها ؟
هي تعرف أن ثمة جنين بدأ ينمو في أحشائها ،ولابد لها أن تلملم شتات نفسها ,
ولكن كيف ؟!
بعد عدة شهور قضتها بالقرب من تلك المرأة  التي أدخل الدهر عليها الوان من
الكرب  الحنونة , والتي منحها الله بحراً من الحنان , ليغترف من يقترب من
سواحله ما يشاء .
وعند أول لقاء كان قد جمعها مع نازك ..... قالت لها نازك : قال لي أحمد , انني
سوف أقيم عالمي هنا معك .
كانت جميله تحاول أن تمنح نازك الثقة في البحث عن خيوط الأرتباط بذلك المكان
, عندها بدأت نازك تختبر قدرتها على اكتشاف معالم الطريق , للوصول الى نقطة
الألتقاء تماما مع المكان .
هي علمت أن السير في مهمة تعليم الصغار , يمنحها عدم الأرتماء في الجانب
السلبي من الذكريات لكي تتطلع الى رؤى تحاول تثبيتها لأجل الوليد القادم .
وفي ساعة مبكرة من الصباح , جاء الوليد , فأسمته أمه )سامي( , وبين أشجار
النخيل ترعرع وأطعمته جدته منذ أن كان صغيراً)حلاوة نهر خوز( لكي يبقى هذا
المكان حاضرا في أذهانه , كما تردد جدته جميله ذلك دائما.
أيقن سامي منذ أن كان عمره عشرة سنوات , أن المرء لا يمكن أن يحتفظ
بالأشياء التي يحبها الى الأبد , فعندما فارقت جدته الحياة , أدرك وبقوة انه فقد
شيء كبير , ولكنه عرف أنه لايستطيع اعادته .
جامعة البصرة  سنة 1988
من أحدى الأبنية في المجمع الجامعي , كانت أصوات الموسيقى تصدح وتنشر
صداها خارج المبنى, حيث يمكن للمار أن يسمعها, وفي داخل ذلك المبنى ,
عالم يسوده النشاط والحيوية , حيث جميع اللذين ينتمون اليه فتية وفتيات في
مقتبل العمر, يحاولون أن يجعلوا من عالمهم هذا , ملاذ لهم لممارسة مفردات
حياتهم التي يعيشونها يوم بيوم .
كان صلاح , وهوطالب في كلية الزراعة , يجلس بين مجموعة من الطلبة
والطالبات , يتحدث اليهم , ولكن كلامه لايسمع , لطغيان صوت تلك الموسيقى
الصاخبة على المكان .
نهض صلاح من محل جلوسه وحاول الخروج من المبنى عبر بوابة المكان نفسه
..... أصبح الآن في الخارج , بدأ يتلفت وكأنه يبحث عن أحدهم قد أضاعه للتو
,حينها أدرك أن شيء قد فاته , جعله هذا , يحث الخطى قاصدا مكان قريب ......
وبالقرب من ذلك المكان الذي يسمونه طلبه كلية الزراعة)الظلة الخشبية( , أبطأ
صلاح من سرعته,فأصبح أمام باب تلك الظلة , فتح صلاح بابهاالخشبي , الذي
أصدر صريرا ,جعله يعظ على اسنانه,خشية منه أن يبعث الانتباه .
انه يريد أن يرى صديقه الذي جاء يبحث عنه, كما يحب أن يره في كل مرة .
أخذ صلاح يسير على مقدمة حذائه الأسود الجديد ,على ارض قد يغطت بأوراق
الشجر اليابسةوعينيه تبحث في المكان وبين النباتات المزروعة عن ضالته
المنشودة .
لمح صلاح بعض من جسد صديقه ,اذ شاهد فردتي حذائه , وجزء من بنطاله
الجينز الأزرق , استدار صلاح بهدوء ليجد ذلك الصديق )سامي ( مستلقي على
ظهره, واضعا قبعة الرأس المصنوعة من خوص سعف النخيل , نخيل مدينته )أبو
الخصيب(, على وجهه , تكاد القبعة تغطي معظمه , غارقا في تفكير , كان صلاح
يعرف يعرف الكثير عنه .
وقف صلاح بالقرب من قدميه وراح ينتظر , لكنه عرف أن سامي لايمكن أن يشعر
به , لذلك عمد الى طريقة أخرى تجلب انتباهه و حيث بدأ بضرب باطن حذائه ,
مرة تلو الأخرى , انتبه سامي وحاول رفع القبعة ليشاهد صلاح واقفا , وبدون
أكتراث لوجوده  لأنه كان يعلم , أنه لا أحد يجرأ أن يصل الى هذا المكان وهو
فيه,سوى صلاح  مد يده طلبا للمساعدة كي ينهضه من منامه , عمل صلاح
برغبة سامي , حين مد يده اليمنى لانهاضه وفي اليد اليسرى التقط قبعة الرأس
.
بدأصلاح يتفحص تلك القبعة , والتي كان سامي يعتمرها عندما يكون في هذا
المكان , منذاليوم الأول لدراسته في هذه الكلية , قال صلاح وهو ينظر في القبعة
: سامي ؟ من صنع لك هذه القبعة؟
قال سامي : صنعتها جدتي .
قال صلاح وهويقلبها بيده : نعم , نعم , ولكن قل لي , هل جدتك على أطلاع
بالثقافة المكسيكية ؟!
تملكت سامي رغبة خفية بطرح صلاح ارضا وتلقينه درسا , لكنه اكتفى بدفعه
الى الخلف وهو يقول له : الثقافة المكسيكية ,ها , الثقافة المكسيكية .
ضحك صلاح ,هويتحاشاه قائلا : أني أمزح .
قال سامي : ما الذي أيى بك الى هنا ؟! قل لي هل أغلق نادي الطلبةأبوابه .
قال وآثارالضحك لم تزل على ملامح وجهه : لا لم تقفل بعد , وجئت لأخذك الى
هناك ..... الى حيث أصناف الجمال متنوعة, وأحاديث تخرج من شفاه ملونة بلون
الورد , ونظرات من عيون لا تشبه كل العيون , مثل التي أمامي , و...
قال سامي مقاطعا: يكفي ما قلته ..... أتظل هكذا دائما ؟! تهوى القشور !
قال صلاح والابتسامة تلازمه : يكفيني القشور , لأني تركت اللب لك .
ابتسم سامي , فأمسك بذراع صلاح , وحاول جره الى مكان ما , وفي نيته أن
يريه شيئا , قائلا له في منتصف المسافة :
 سوف أريك شيء .
قال صلاح : ماذا , هل قتلت أحدهم , وواريته التراب في هذا المكان .
نظر سامي اليه ولم يتفوه بشيء , وقفا ألأثنان أمام مجموعة من النباتات , قال
سامي : أنظر .
قال صلاح : أني أنظر , فأرى نباتات , ما الجديد في ذلك ؟!
قال سامي : نعم انها نباتات , ولكني جعلتها...
قاطعه صلاح قائلا : لاتقل لي أنك جعلتها تتكلم ؟!
قال سامي : لم أقل هذا يامتسرع ...... هل ترى أشكالها الغريبة وألوانها ؟
قال صلاح : أتعلم ياسامي .... بل مؤكد انك تعلم . الحرب تدور رحاها منذ سنوات
, اني أخشى من يوم , تأتي قذيفة عمياء من مدفع غبي لايعرف كم هو عياره ,
وتقلب هذا المكان رأسا على عقب , ويصبح كل شيء فيه غريب, لا يملك الا لونا
واحدا وهو الأسود.
قال سامي بغضب : أغرب عن وجهي .
قال صلاح : سوف أذهب .
استدار صلاح كي يخرج , ولكن سامي صاح خلفه قائلا : قف, سوف أذهب معك .
لم تزل أعداد من الطلبة والطالبات يشغلون الأماكن في أروقة النادي .... بعد
وصولهما, اتخذ صلاح وسامي مكانا للجلوس , قال صلاح : سوف أجلب لك كوبا
من الشاي .
قال سامي وهويتفحص المكان : دعك من الشاي , فالبقاء لن يستمر طويلا في
هذا المكان .
استغرب صلاح وقد أخذته الحيرة , لكنه قال : ما الذي جرى لك ياسامي , لماذا
أنت هكذا دائما؟!
قال سامي : تريد أن تعرف , سوف أقول لك .... ولكن قل لي أنت أولا , هل كل
شيء على ما يرام , وان كان كذلك لماذا هذا الدمار , حرب تحاول أن تدخل عامها
الثامن ,لأي شيء ؟ لا أنت تعلم , ولا أنا.......أوأي واحد من هولاء الجالسين ,
اللذين تراهم يضحكون , أنا على يقين أنهم يضحكون خوفا من القادم من الأيام ,
حين لايجدون أوقاتا لاطلاق ضحكاتهم .ياسامي ,اني أخشى أن يكون هذا الهواء
الذي نتنفسه يحمل مفاجئة الدمار .
قال سامي )بجديه( : وهل تحاول أن تنشد التغير في صخرة صماء ليس لها باب ,
لو حاولت المساس ببعض أجزائها لسقطت عليك ذلك الجزء وقتلك..... جميع
هولاء الجالسين يعرفون ذلك , ولكنهم لايملكون..... أو أدركوا انهم لايملكون
انفسهم .
قال سامي : لكنني لازلت أمتلك الصراخ , فماذا لو صرخت .
قال سامي كلمته الأخيرة بصوت عالي , جاعلةأصوات الجالسين تتلاشى , وهم
ينظرون صوبه , رغم أنهم لم يعرفوا عن أي شيء كان يتحدث .
أمسك صلاح بذراع ذلك الصديق , فأنهضه ثم قاده الى الخارج .
وعند بوابة المبنى .... قال صلاح بخوف : ماذا ؟ إن كنت لاتخشى على حياتك ,
فارفق بي ، ثم إن كنت تريد أن تكون ثائر على آلام تعيشها, فسوف أنسيك هذة
الآلآم..... فقط أترك لي نفسك هذه الليلة , وسوف ترى .
قال سامي )بعبوس( : ولماذا هذه الليلة ؟!
قال صلاح :انها ليلة رأس السنة .
في المرآب الخاص لفندق الشيراتون المطل على شط العرب , توقفت تلك
السيارة المكشوفة , ليترجل من جانبيها ذلكم الصديقان , نظر سامي الى سيارته
 التي طالما استهوته  ليتأكد من وقوفها في المكان الصحيح , بعد أن أمكن لهما
من دخول المبنى , أصاب سامي الذهول , أذ لم تشاهد عينه مكان كهذا من
قبل, فذلك اللحن الذي تطلقه أنامل العازف الشاب على آلة البيانو , وهويتخذ
مكانا ليس ببعيد عنه , قد جعله يفقد الاحساس بالعالم الخارجي وتخيل أنه
يعيش هنا منذ أمد بعيد .
انتبه صلاح لحالة صديقه , عندها ابتسم وقال له : انها البداية ياصديقي , فلا
تتعجل الأمر .
عبر ممر ضيق قاده صلاح , ليصل الى أحد الأبواب المغلقة , وفيما راح صلاح يتكلم
مع الرجل الواقف عند ذلك الباب فانه تنحى جانبا .... ما الذي يفعله صلاح , انه
يعطي الرجل بعض الدنانير , مقابل ماذا ؟ لأنتظر وسوف أرى !!
فتح الرجل الباب, فأشار له صلاح بيده بالتقدم , وعندها أصبح الصديقان في
الداخل .
مكان تتصدح موسيقى الرقص فيه , وأرض حلبة تكشفهاالأنوارالساقطة
عليهامنمصابيح ملونة وكأنها ضياء البرق في ليلة مظلمة , تلك الحلبة التي
تتوسط المكان , وقد تزاحمت فيها أجساد الراقصين .
صاح صلاح : انه الديسكو , الم تسمع به.
جلس سامي على أحد الكراسي المحيطة بمكان نصف دائري , وبالقرب من
صلاح , ولكن عيناه لازالت ترصد الراقصين.
ثمة امرأة من جنسية اجنبية كانت تقوم بالعمل في ذلك المكان , حاول صلاح أن
يتحدث اليها , ولكنه بمحاولته تلك , قد فشل ,لأنهالاتجيداللغةالعربية فحاول ثانية
, فكان الأمر مدعاة للضحك من قبل سامي , مما جعل صلاح يستشيط غضبا.
حاول سامي هدأ من غضبه,حين قررمساعدته في الحصول على طلبه من يد
الفتاة .
تناول صلاح علبة البيرة ليسكب جزء من محتوياتها في كأس أمامه , ثم التفت
الى سامي قائلا : لماذا لم تطلب علبة أخرى لك؟!
قال سامي : لاأريد , سوف أكتفي بكأس من العصير .
قال صلاح بعدم اكتراث : أنت وشأنك .
تناول صلاح الكأس الذي أمامه وبدأ بشرب محتواه , وضع الكأس جانبا , ثم بدأ
بالبحث في جيوب سترته عن شيءما , ولكنه لم يجده , فأثارذلك ثورته وسط
الضحكات التي بدأ يطلقها سامي , لكن صلاح وجد ما كان يبحث عنه في
أحدجيوب بنطاله, أخرج علبة السكائر خاصته , ياخذ واحدة منها ويضعها في فمه ,
تذكر أنه لايملك عود ثقاب .... فقال لسامي : ناولني .....
أشارله بحركة من أصابعة , علم سامي مقصده , ولكنه قال : لااملك عود ثقاب
واحدا فابحث في مكان آخر .
دارت معركة كلامية بينهما .
بالقرب من المكان الذي جلس فيه الصديقان أحد الأشخاص , نهض ذلك الرجل من
مكانه , والذي كان يرتدي ثوبا أبيضا وغترة بيضاء ويعقل رأسه بعقال , واقرب منهم,
ملقيا عليهم السلام ,ثم بدى قائلا :
 كنت قريب منكم , فسمعت عنوة , ودون قصد مني مادار بينكم ,فما الذي حصل
؟
قال صلاح : وما يهمك أنت ؟!
قال الرجل : انني آسف , ولكن أردت المشاركة فقط .
نهض سامي وهو يبتسم , وقال للرجل : صديقي لم يقصد شيء قي كلامه ,
تفضل في الجلوس معنا .
جلس الرجل.... فقال سامي :إن المدخنين عليهم أن يحملوا عود ثقاب معهم ,
وصديقي هذا لايتقيد بهذا التقليد ،وكل المعركة التي نشبت بسبب عود الثقاب .
قال الرجل : ليس دائما , فأنا مثلا أحمل ما قلته , ولكني ليس من المدخنين .
ناول الرجل ولاعة الى صلاح لكي يشعل سيكارته ..... اراد صلاح اعادتها للرجل
,ولكنه رفض ذلك , وأرادها أن تبقى ذكرى منه ، عندئذ قال سامي للرجل : من
محاولة نطقك للكلمات , يبدو لي إن قدومك من دول الخليج العربي , هل أنت من
هناك ؟
قال الرجل وهو يضع ابتسامة حقيقة على شفتيه : لقد أحسنت الأستقراء , فأنا
من دولة الكويت , وقد أصبحت لي شبه
عادة , أن اكون آتيا كل خميس الى مدينة البصرة الجميلة , او كما أتصور انها كذلك
,وكذلك أزور اختي المتزوجة من رجل عراقي .
نظر الرجل الى سامي, وفتح ثغره باسما وقال : لا ادري لماذا اتحدث اليك هكذا ,
أعني تفاصيل تهمني ....على كل حال اسمي عبد الله , اعمل مراسل في
التلفزيون , في بلدي الذي يقع خلف الحدود .
بعد دقائق من الوقت , جرى فيها مد خيوط التعارف فيما بينهما وسط حديث كان
يدور بينهما , وحين ابتدات بعض الالفة تاخذ مكان لها  بعد أن تسللت  فى نفس
صلاح , اتجاه عبدالله , والذي اقتحم زمنهم في هذه الليلة , كعابر سبيل حلَّ ضيقا
على أحدهم دون موعد كما اقتضت العادة إن تكون .
عندها وقف صلاح ,وقد بدى شبه مخمور.... قال : ما الذي حل بكم , يبدو انكم
على اصرارلقضاء الليلة هنا , هيا انهضوا فما زال لليل بقية خارج هذا المكان .....
انني اختبرت مطعما ,يدلل الزبائن لديه , فما هو الرأي لديكم ؟
قال عبدالله :انا لا أملك أي اعتراض .
قال سامي : اذن فلننهض , لأني كذلك , ولكن أتمنى إن يكون مكانك ياصلاح ,
الذي اخترته, على ضفاف شط العرب ؟
قال صلاح بثقة : هو كما قلت .
في المرآب الخاص بقندق الشيراتون , وبالقرب من السيارة المكشوفة وقف
الجميع ..... قال عبدالله وهويشير بأصبعه الى مكان ما : تلك سيارتي , من يرغب
الركوب معي فليأت معي .
قال سامي وهو يتحسس غطاء محرك سيارته : اما أنا , ليس لي بديل غير هذه
الجميلة .
التفت سامي الى صلاح قائلا : اذهب أنت ياصلاح برفقة عبدالله , لأنك تعرف
الطريق الى اختيارك.
انطلقت سيارة عبدالله الشوفرليت البيضاء , وفي أثرهاسامي وهويقود سيارته,
عبر بوابة الفندق الكبيرة .
مياه النهر أبت الا إن تكون على عهد دائم مع ذلك المكان الذي احتل جزء صغير
من ضفافه , تلك المياه لشط العرب , والمكان هو المطعم الذي وقع عليه الاختيار
,تلك المياه التي تحاول وبدون كلل أن تعكس أنوار مصابيح المكان الواصلة اليها ,
مادام الليل باقياً في ساعاته .
رغم برودة الشتاء التي تخيم على المكان , فان الجالس في أروقته يتكون لديه
شعور بامتلاك الوقت... ذلك هو الاحساس المتولد الذي كان صلاح يشعربه عند ما
يقضي بعضا من وقته فيه .... اقتحم صلاح المكان, يتبعه عبدالله ,وبعد زمن قليل
كان في أثرهما سامي, بدى صلاح يختبرقوة صوته في النداء على أحدهم ,
وحيث يظن السامع له , انه أدمن القدوم هاهنا كثيرا .
جاء ذلك الشاب السوداني , محمود , بعد أن تعالت النداءات بإسمه من فم
صلاح.... كان محمود في العقد الثالث من سنوات عمره ..... وحين وقع نظره على
صلاح , جاء مسرعا بأتجاهه , مصافحا له بحرارة وهويقول : كيف حالك يااستاذ
صلاح , منذ وقت ليس قليل , لم نعد نراك ؟!
قال صلاح : محمود ؟ دعك مني , أنظر هولاء , هم ضيوفي , لنرى ما أنت فاعل !
قال محمود : أهلا بيهم , وبك أيضا , اذن هم ضيوفي أيضا .
كان المكان للوهلة الأولى يبدو بدون حياة , ولكن عندما أجلس محمود أولئك
القادمين , بدأت الحياة تنشرمعالمها في المكان .
فليس لصلاح القدرة على الصمت فانه لايطيقه , كما الانتظار, فمزاحه الجميل يكاد
يعشقه سامي , ولا يستطيع الاستغناء عنه وهو دائم البحث عن طريقة ما
لتجعله يخرج هذا المزاح , فالضحكات العالية التي يطلقها المتلقين لكلمات صلاح ,
كانت تملأ المكان ...... وبعد حين امتلأت طاولة الطعام التي يستديرون حولها في
جلوسهم , باصناف من الأطباق التي أعدهامحمود .
انتصف الليل في المطعم الذي يديره محمود , وكان لابد من رحيل سوف يقوم به
عبدالله الى أهله, عبر الحدود .
غادرعبدالله المكان , وعيون ترصد ذلك الرحيل , عبربوابة المطعم ...... التفت
سامي الى الصديق الجالس بجانبه وقال بصوت امتلك احساس اللحظة :
هل يمكن إن نراه ثانية ؟
قال صلاح : في محطات السفر , يمكنك اللقاء بأحدهم... ربما نلتقيهم فيما بعد
....
قاطعه سامي : وربما لا ؟!
قال صلاح , بعد أن حاول النهوض : لا , لا نلتقيهم , ثم دعنا نذهب من هنا , لقد
اختنق صدري بالضجر .
قال سامي : هكذا انت دائما , تترك في المنتصف , وتجعل كل شيء مبعثر خلفك
.
استدار صلاح نحوه , استند براحتي كلتا يديه على حافة طاولةالطعام , وبدأ ينظر
بوجه سامي , ابتسم وقال :
 وهل تظن إن ثمة شيء , يستحق البقاء طويلا وأنت تحاول أن تلتصق به .
نهض سامي , وأصبحا وجها لوجه, ثم قال :لا ياصلاح , ليس كل شيء , بل أن
هناك أشياء تسمى مجازا بالأشياء .
ولكنها ليست كذلك, قل لي... فما بالك بالنخلة ؟ هل هي شيء ؟ لاأظن .... وان
كان هذا حال النخلة , فما بالك بالمكان الذي تترعرع فيه تلك المخلوقة ؟ أظن أن
مايحيط بنا , يحتاج الى فهم.
حين جاء الصباح ليوم آخر, وقف الأستاذ في قاعة الدرس وهو يتهيأ لألقاء محاضرته
, ورغم أن الطلبة لازالوا يتوافدون على المكان, فان سامي كان تيخذ مكانا
له,وهويقف عند مدخل المكان ...... لم تكن همهمات الداخلين للتو ,تمنعه من
التفكير والتساؤل..... لماذا لم تأتي الى الدرس ياصلاح , وقد بدأ الآن ؟ لاأظن أن
أمرا قد حال دون حضورك , لكنه شعورك الغيرمبالي
بما يتحرك من حولك .
ولكن كلمات الأستاذ , جعلت سامي يجلس على مقعده ,وراح يستمع لتفاصيل
الدرس...... وفجأة علا صوت انفجار يكاد يكون قريب , عندها توحدت قلوب
الحاضرين , وهي تحمل معنى واحد للخوف , ماسوف يحمله المجهول .
اقتحم أحدهم المكان , وهويحمل في صوته الخشية على الآخرين , منذر الجميع
بضرورة ترك المكان ....... خرج سامي مع الباحثين عن ملاذ , ولكن بنية أخرى....
وحين التقى أحدهم بين الممرات ,أعلمه بموقع الأنفجار .
كاد سامي أن يركع على الأرض ,حين خارت قواه , ولم تكن بأستطاعةساقيه أن
تعينه على الوقوف ... لكنه حاول أن يستجمع قواه ليمنحها الى طرفيه , والتي
تكاد تشعر بملامستها للأرض, بدأ يردد مع نفسه قائلا : هيا ايتها القدمان
,اسرعي ,فلعلني أكذب الهاجس الذي طرأ على فكري, أريد أن أقابلك ياصلاح
وأنت تقف بطول قامتك , تبتسم لي كلما تراني , وكما عهدتك .
وسط الدخان الذي لف المكان , وبين شظاياالبناء المنهار , شاهد سامي جمهرة
من المنكوبين , وقد عرف جميع الوجوه، ولكن وجه صديقه لا زال مصرا على عدم
الظهور..... وبخطى قلقه وكأنها تخشى المفاجأة , وصل هناك, حيث مجلس
الحزن والذي تخلله الخوف , قد عقد دائرته , يتوسطها جسم قد عاث به الموت
الذي لم يكتبه القدر ..... من يكون هذا ..... آه لو تعرفون
لماذا أيها الصديق تحاول أن تضيف جرحاعظيما الى جراحاتي .....
في مجلس الفاتحة ,اقترب ذلك الرجل من سامي , وجلس وبقربه , تنفس عميقا
ثم حاول اخراج بعض مرارة النفس , وهمس له :
 من هذه الدنيا , يمكن لنا أن نبعث الرحمة الى الراحلين لعالم آخر , يمكنك أنت
أن تفعل ذلك .
نظر سامي بوجه الأب , حينها أدرك أن صديقه قد رحل عنه حقا .ولكنه ظل يتذكر
دموع ذلك الصديق, عندما سجى جسده على دكة التغسيل , حين دمعت عيناه .
جامعةالبصرة  سنة 1989
بين عيونهم وأطراف شفاههم, ثمة عبارة واحدة كانت تدور , اننا سوف نطوي
صفحات حياة ما , وهذا اليوم سوف يقام الحفل .
طالبة مسرعة, وهوتلحق بأخرى , لتعرف منها أين وضعت بدلات التخرج .... فيأتي
الجواب بفرح انني لاأعلم , فسألي ذلك الطالب .
ولكن سامي كان يسمعهن فيبتسم , ثم أسمع نفسه بعض كلمات الأمل , وقد
فقد
الاحساس بها ... لكم الحق أن تفرحوا , فالفرح هبة الله للجميع....ولكني.... آه
ياصلاح , ليتك تكون الآن , أو نكون معا لنتشارك في مراسيم الفرح المقامة هذا
اليوم , لكنك كنت دائما في عجلة من أمرك , في كل شيء .... حتى في سفرك
الطويل .
بين صفوف الطلبة المحتفلين , اتخذ سامي مكانه... وبدأ عريف الحفل مسترسلا
في تلاوة خطابه , وقد ذكّر الجميع بذلك الغائب عنهم في الجسد, ولابد له من
الحضور كذكرى ...أدرك سامي إن الأمر يعنيه , حين بدأ اسم صلاح يتردد .
لكن عيون الحاضرين وبنظراتها ,لم تتح له الوقت الكافي لينتشل نفسه من دائرة
الشك بأن كل شيء على ما يرام , وان ما قاله خطيب الحفل يبدو كحقيقة... فقد
منح صلاح شهادة تخرجه من الجامعة .
نهض سامي من جلوسه... وهويدرك أن الجميع يعيش حالة من الانتظار , ليروا ما
هو صانع .
أطلق سامي العنان لكفي يديه لتفعل ..... بدأ منفردا بالتصفيق , ثم انتشر, وبدى
عاليابعد أن شاركه الجميع .
أغلق اليوم آخر باب من أبواب قاعات الدرس , حينئذ أزف موعد العودة الى الديار,
فوالدته سوف تفرح بقدوم طفلها الكبير .
وهو يقود سيارته المكشوفة في ذلك الطريق ,تذكر يوما وعندما كانت والدته
نازك ,تصطحبه معها الى مدينة البصرة ,عندما كانت تريد أن تقضي حاجة لها , بأن
أشجار النخيل تملك القدرة على جعل الآخرين ينظروا اليها بفرح , وان تعدى البصر
مدى أطراف سعفها العلوي , فانه يعود محملا بعهد موثوق بأن القادم من
الأيام.....سيكون أفضل.....
والآن راودته الأفكار :
اليوم , ليس كالأمس ...... وكأن عجلة الزمن قد أصابها الخلل, إن كانت قد توقفت
, أو عادت تدور الى الوراء .... ولكن ماذا حدث لكل شيء وقد تدهور ؟! كيف لي أن
أكتشف سرهذا الغموض وقد اتصف كل شيء بهذه الصفة .
بدأ سامي يبتسم , وتذكر أن شر البلية ما يضحك..... هذا ما تعودت سماعه ....
قالها وهومصر للوصول الى مدينته )أبوالخصيب(.
فتح باب الدار ، فوجد باب حجرة والدته مفتوحا .... أدرك أنها سوف تحتضنه لو تم
اللقاء بعد فراق دام لأشهر .
علمت نازك أن ولدها قد فقد ما كانت تتمناه هي , فالسعادة هي مطلبها له ,
وتعرف انها تأتي بعد مجهود.... هي تعرف إن ولدها فعل لأجل ذلك,ولكن
المسافة ابتعدت به كثيرا عن السعادة ..... قالت له : أريدك أن تعرف أن أباك كان
يحب أن تكون مولودا في هذه الدنيا .
لم يك ليعرف أبدا , ما رمت اليه أمه فيما قالت .
علا طرق على باب الدار , فقد علم الأصدقاء بقدوم سامي,ولابد له أن يتقبل ما
يفرضه أولئك الأصدقاء ...حين يتم اللقاء.
زيارات لبيوت الأصدقاء , وتذكير بأحاديث جرت منذ وقت, هنا وهناك .... وفطور
الصباح من التمر واللبن في بستان الحاج عبد الفتاح, عندما حان موعد قطف
عثوق الرطب .
مرت الأيام بسرعة في الديار ..... وفي آخر ليلة , التقى أمه ليقول لها كلام عن
الوداع , ففي الصباح لابد له من الرحيل , ولكن بشروطٍ جديدةٍ ، أصرت للقيام بذاك
الرحيل .
في أحد الثكنات العسكرية , ارتهط سامي, ولم يزل مرتديا ملابسه المدنية, في
صف طويل مع مجموعةمن الشباب يوازونه في سنوات العمر , وقد بدى مشغولا
بتفاصيل حياة هي جديدة عليه...... وفجأة انهارالصف البشري, نتيجة موجة من
تدافع قد جاء من الخلف , تلك الموجة التي استمرت في تقدمها الى الأمام,
استطاعت إن تجعل سامي يفقد السيطرة على مركزثقله,فيقع بجسده على
الشاب الواقف أمامه ,وفي ثواني معدودة أصبح الأخيرعلى التراب يجثوا , التفت
الى سامي , وفي غمرة انفعاله مد يدة طلبا للمساعدة في النهوض..... أسرع
سامي الى ذلك وفي نفسه استحياء كبير , ولسانه ينطق بالاعتذار الكثير .
نهض الشاب وراح يمسح التراب من بعض المواضع من ملبسه , نظر بوجه سامي
وقال : لم تك غلطتك ,بل حظي العاثر الذي أقف أمامك .
نظر سامي بوجهه ولم ينطق بكلمة واحدة , سوى بعض الاستغراب.
وبعد دقائق ..... أصبح سامي ماشيا وهويحمل باحدى يديه كيسا , وفي الأخرى
فردتي حذاء عسكري , ولكن ثمة نداء قد أتاه من الخلف جعله يتوقف, التفت
فوجده ذلك الشاب الذي التقاه قبل قليل ... قال الشاب وهومقبل : قل لي من
فضلك , كيف يمكنني أن أستبدل هذا الحذاء, فقياسه لايتناسب مع حجم قدمي .
ابتسم سامي قليلا وقال : وهل تلك مشكلة كبرى , اذهب ثم استبدله بآخر من
المخزن .
نظر الشاب بوجه سامي ,نظرة تنم عن أستهزاء بكلامه وقال :أستبدله بآخر, ها ,
وهل نحن في سوق العشار في البصرة , هل تعرق أين نحن ؟ نحن .!
قاطعه سامي قائلا : لا أريد أن أعرف , وأنت حر فافعل ما يريد .
تركه سامي وانصرف , لكن الشاب لحق به واستوقفه وقال : أرجو أن لاأكون مصدر
أزعاج لك , وأنا على أسف اليك .
قال سامي : لم يحدث شيء من الذي قلته .
قال الشاب وقد مد يده ينوي التعارف : أنا تعبان .
عاد سامي ثانية الى الاستغراب منه , وقال بابتسامة : من أي شيء أنت متعب
لم يفهم الشاب كلام سامي في بادئ الأمر , قال باستغراب : ممن أنامتعب !
لاأشكو من شيء .
لكنه استدرك بسرعة فأردف قائلا : لا , أنا اسمي تعبان ... سيد تعبان .
وباعتذار , قال سامي : آسف جدا سيد تعبان , لم أفهم كلامك صدقني .
قال تعبان : لا عليك , ولكن قل لي , هل تملك شهادة جامعية , أم.... .
أراد سامي أن ينهي الحديث معه , فقال مقاطعا : نعم , أنا كذلك , متخرج من
كلية الزراعة .....
كان تعبان ضئيل الجسم , مما جعل سامي يخالجه شعور ليبرهن له شيء الزهو
قد تولد فجأة لديه فأردف قائلا :وما عنك ؟
قال تعبان : ماذا تقصد ؟!
قال سامي : أقصد , ماهو تحصيلك الدراسي ؟
نظر تعبان بوجهه , وقد أحس بوجود حالة من الاستخفاف به , ابتسم وقال : أنا....
أنا مهندس في الهندسة الكهربائية .
شعر سامي بخجل, لم يشعربه من قبل , حتى الكلمات أبت أن تخرج من فمه الا
مبعثرة حين قال :أنا ,أنا لم أكن......
ابتسم تعبان وقال : أعرف أن اسمي هو المشكلة , ولكن الذنب لست أنا من
تسببه , انه ذنب أبي الذي أسماني بهذا الأسم.
مد سامي يده قائلا : أنا اسمي سامي أحمد فهد , من أبي الخصيب .
قال تعبان وهويصافحه :من مدينة حلاوة نهر خوز ..... أما أنا من مدينة القرنة ,
ولكن لايصنعون فيها تلك الحلاوة , قل
لي , هم كيف يصنعون تلك الحلاوة ؟
قال سامي وهويضحك : لا أعرف .
وبعد مرور يوم ..... والساعة تقارب الخامسة فجرا , انتظم فصيل من الجنود في
ثلاثة صفوف في عراء الثكة العسكرية ووقف سامي وبجانبه سيدتعبان في الصف
الوسط , وعندما جاء ذلك العريف يخطو, أدرك سامي أنه أصبح في القفص .
وقف العريف في مقدمة الفصيل , وألقى خطابه قائلا : ليسمع أحدكم الآخر ...
أنتم الآن صرتم عسكر , وذهب ما كنتم عليه قبل أن تأتوا الى هذا المكان , وان
كنت أنت أو ذاك خريج أو مريج فالجميع........وأنتم تعرفون باقي المقولة .
كان سامي وهو يقف في الصف تجول الأفكار في رأسه.... لماذا يفعلون ويقولون
هكذا , هل يريدون أن يمسخوا شيئا من انسانيتنا , أم هو الجيش , كيان ضعيف
يستمد قوته من الضبط , وكما يقولون أولئك المنظرين لهذا الكيان .
بعد فترة التدريب , جلس سامي منفردا , وراح يخرج سيكارة , أراد وضعها في
فمه ,فشاهد سيد تعبان يتقدم نحوه , فأشعل سامي سيكارته، ونظر الى القادم
وقد كان يقف بقربه , فقال له : تفضل بالجلوس , فوقت الاستراحة قليل .
جلس سيد تعبان وهو يقول : وما نفع الاستراحة , إن كنا سوف نعود الى......الى
الاضطهاد .
التفت الى سامي وأردف قائلا : هل حقا ماقلته بوصفي هذا .... الاضطهاد ,
صحيح ؟
ابتسم سامي وقال : وما تعريفك أنت الى الاضطهاد ؟
قال : أنا.... بصراحة لا أعير أهتماما لتلك المفردات ....ال , الملتويه .
ضحك سامي ضحكة صغيرة , نظر اليه وقال :الملتوية !... من أين جئت بهذه
التسمية .
قال سيدتعبان : صدقني , أنا أفهم تسميات مثل أمبير , فولت , مقاومة ، متسعه
,كولوم ،فاراداي .......
قاطعه سامي ضاحكا وهويقول : يكفي , يكفي هذا , هل تريد أن تلقي درس
بالكهربائية ؟
قال :الحديث بالكهربائية أفضل بكثير من الاستماع الى حديث ذلك العريف .
مرت الأيام وبالآثار التي حملتها , لتكون شهورمحذوفة من أعمار المتواجدين في
تلك الثكنة العسكرية , ولكن ثمة شيء بدأ ينمو , في ذلك المكان .... تلك هي
علاقة الصداقة المتكونة بين سامي وسيد تعبان .
عند حلول أيام الصيف , وبعد عودة سريعة من اجازة قضاها سامي بالقرب من
والدته الى ثكنته العسكرية , التقى بصديقه سيدتعبان في الردهة المخصصة
للمنام , قال سامي : هل حقا ما سمعته من أنباء تتحدث عن....... لا أصدق هذا
.
كان تعبان مستغربا , لكنه قال : أي أنباء ؟! .... ثم انك غير مصدق , لأي شيء
أنت غير مصدق ؟!
قال سامي وقد جلس على السرير : عند عودتي الى هنا , وأنا في الطريق ....
بدأت أشاهد قطعات من الجيش تتحرك باتجاهات كثيفة وكأن الأمر مناورة
عسكرية سوف تقام في مكان ما .
بدأ سيد تعبان وكأنه يحاول الفرارمن أمام سامي لخشيته , أن يسمع أحدهم ما
يدور من حديث بينهما .
نظر سامي بوجه سيدتعبان , وقد أعلمته ملامحه, بأنه يخبىء شيئا...قال سامي
:ما الذي تخفيه, قل لي ؟
قال سيد تعبان : أنا ..... أسمع ياسامي , هوحديث متداول سرا بين الجنود , ظهر
فجأة هذا اليوم.
قال سامي )بتعجل ( : حديث عن ماذا ؟
قال سيدتعبان :عن معركة سوف تقوم , أو احتلال لبعض أراضي دولة من جهة
الغرب ..... يقال انها الكويت .
قال سامي )بذهول( : اذن حقا ما شاهدته !
قال سيد تعبان )بخوف( : اسمع ياصديقي , نحن أناس بسطاء , وهذا الكلام جدا
خطير , أخشى أن يسمعنا أحدهم ويتهمنا بالخيانة العظمى .
بدأسامي يرددحديثا مع نفسه قائلا : الكويت , ماذا فعلت , وان فعلت شيء ما ,
هل يصل الأمر الى حد الحرب, ثم أن هناك عبد الله وعائلته .... ماذا عساي أن
أفعل .
التفت سامي الى ذلك الصديق الواقف بجانبه وقال : أنت على علاقة جيدة مع
البعض ممن يملكون الأمر في هذا المكان , أريد إن أحصل على اجازةلمدة ثلاثة
أيام .
قال سيد تعبان )باسغراب( : ألم تكن في اجازة, وها أنت عئد لتوك ؟!
قال : دعك مني ,وقل لي هل تستطيع ؟
قال )بهدوء( : سأحاول .
قال : لا , ليس تحاول ..... أقول لك هل تستطيع ؟
قال ,وقد تأكد له جدية ما يريده صديقه : لك ما تريد .
غاب سيد تعبان لساعة , ولكن سامي كان فريسة لوحش القلق الذي أصر على
الهجوم عليه ودون أن يستعد لذلك الهجوم .
عاد سيد تعبان وهويحمل ورقة الاجازة , وقف بالقرب منه وقال : هذه الاجازة ,
ولكن قبل أن تأخذها من يدي , أريد أن أعرف , الى أين تنوي الذهاب ؟
قال سامي )بتروي( :اسمع ياصديقي , أثناء مدة وجودي معك , أدركت انك خير
الأخ والصديق , ولكن لا تسألني الى أين أنت ذاهب , لأني لا أريدك أن يتولد لديك
أحساس بأنني......
قاطعه سيد تعبان قائلا :أجل ... أجل , أني أفهم ما ترمي اليه, لا تظن أنني
لاأعرف الاستقراء على طول الطريق .
في المرآب الخاص بالثكنة العسكرية , وبالقرب من سيارته , استبدل ملابسه
العسكرية بأخرى مدنية..... ركب سيارته وانطلق بها .
أربعة أيام قبل الهجوم على الكويت....
في أحد مقرات الاستخبارات العسكرية في الجنوب ..... وفي حجرة مغلقة ,
جلس احد الأفراد يمارس عمله على أجهزة للنقل التلفزيوني , وبينما هو كذلك ,
اذ فتح الباب فدخل أحدهم واقترب من ذلك المنشغل ,ولم يزل..... بدأ الرجل
الداخل لتوه بالنظر في شاشة العرض ,حيث تظهر صورة أحدهم .
قال الرجل الواقف : ما هو تقييمك النهائي للعنصر الثالث ؟
قال الجالس :تفوق في اختبار قوة الشخصية , سرعة البديهه لديه ممتازة , اضافة
الى الشكل , فهوقريب الشبه من السكان المحليين في ذلك المكان الذي سوف
يرسل اليه .
قال الرجل الواقف ,وقد اعتدل في وقوفه : عظيم , لم يبق لنا الا العنصر الرابع ,
وهو ينتظر في الحجرة الأخرى .
قال الرجل الجالس : أني أراه على الشاشة الأخرى .
أشار الرجل الجالس الى حيث يمكن مشاهدة أحدهم ,تظهر صورته على
الشاشة , بدأ الرجل الواقف ينظر هو الآخر , ثم قال :
 حسنا , لنبدأ العمل من جديد .
في الحجرة المجاورة .... جلس شاب, في الخامسة والعشرين من عمره , على
كرسيً وقد بدى القلق يسري في كيانه .
فتح الباب , فأشار الداخل له بالنهوض.... فتح له أحد الأبواب الداخلية , ليتمكن
من الدخول .
في الحجرة الداخلية.... أشار الرجل الجالس خلف مكتب اليه بالجلوس أمامه ,
فيما بعد قال الرجل الجالس )بهدوء( :
 هل أنت خائف .
قال : قليلا , رغم اني لم أفعل شيء , حتى يتم أحضاري الى هنا !
قال الرجل )بأبتسامة( :لاعليك .... ليس كل اللذين يتم احضارهم , هم فعلوا
شيئاَ,كما تقول أنت ... أنت أسمك ميثم , أم هيثم ؟
قال : ميثم .
قال : حسناَ ياميثم .... أنت من الجنوب ,من الناصرية , من عائلةِ معروفةِ ..... تم
اختيارك للقيام بمهمةِ , ولكن قل لي أولاَ , هل تريد أن تخدم وطنك ؟
قال ميثم : ومن لا يريد ذلك .
قال الرجل : حسناَ.... لنبدأ العمل اذن .
بعد أن غادرسامي ثكنته العسكرية , اِتجه وهويقود سيارته الى مكان في وسط
مدينة البصرة , وبالقرب من اِحدى المباني السكنية , أوقف سيارته ,ثم ترجل
قاصداَ البناية ...وفي أحد الطوابق توقف أمام أحد أبواب الشقق , وراح يضغط على
زر الجرس الكهربائي .
مرت لحظات.... سامي ينتظر قدوم أحدهم , كان يخشى من الذي يريده الا يكون
موجود ... انفرجت أسارير سامي عندما شاهد أحدهم وهويفتح الباب , صاح
الخارج للتو من شقته :من ! سامي محمد فهد , صديقي القديم .
وبعد العناق , دخل سامي المكان , التفت الى هذا الصديق وقال : كيف حالك
يامقداد ؟
قال مقداد )بعتاب( :الى الآن ياسامي , منذ متى ولم أسمع منك أو عنك أي خبر
؟ دعني أخبرك أنا ..... منذ وفاة صلاح .
قال سامي : أجل , كل ما قلته صحيح .
جلس سامي , وبينما هو ينتظر رجوع مقداد ,راح يفكر بطريقة ما , ليوصل ماجاء
لأجله الى مقداد ولكن حضوره قد قطع عليه سلسلة أفكاره .
أخذ سامي يتجرع محتويات كأس العصير , وضعه جانباَ ,بعد أن أفرغه تماماَ.. قال
سامي :قل لي يامقداد , هل تذكر بطاقة السكن في الأقسام الداخلية خاصتي ,
تلك التي فقدتها يوم ركبنا معا ......قاطعه مقداد قائلاً :
لا تكمل أذكر كل شيء, يوم ركبنا المركب في شط العرب , وأذكر أيضا ، كيف كنت
خائفا مرتين , أولهما عندما فقدت , والثانية عندما .....
صمت مقداد وقطع الإسترسال في حديثه , ولكن سامي قال وهو يحدق فيه :
لما توقفت عن الكلام أكمل .
قال مقداد : ذلك وقت مضى .
قال سامي : لكني أريد عودته الآن .
قال مقداد )باستغراب ( : تريدني أن أعود الى التزوير ؟!ولماذا ؟
قال سامي : لأنني الآن بحاجة جدا الى عملك السابق .
ضحك مقداد قليلا , ثم قال )بتخوف( : سامي , أين تعمل الآن .
قال سامي : أين أعمل ، أعمل جنديا في الجيش , وأين تظن من تنتهي دراسته
؟
الى الجيش طبعاَ .
قال مقداد : اذن تريد نموذج لاجازة ,أعمله لك ؟
قالسامي : لا , ليس كذلك , يمكنك القول , انه شيء أصعب من ..من الذي
تقوله.
قال مقداد وهو في حيرة :اذن قل ما الذي يريده ؟
قال سامي :أنه هوية منتسبي المخابرات العامة .
نهض مقداد من مكانه مذعوراَ. استدار حول كرسيه الجالس عليه مرتين دون
شعورٍ منه ,توقف ثم قال : أعد عليّ ماقلته قبل الآن ؟
قال سامي : كما سمعت يامقداد , وأنت تستطيع ذلك .
قال مقداد : بل أنا أغبى من أي شيء اِن حاولت التفكير بذلك , هوية مَنْ ؟
ضحك مقداد عالياَ, وسامي ينظر اِليه وهومطمئن , وكأنه يعرف نتيجة هذا الهروب
الذي يمارسه مقداد .
قال مقداد )بخشونة( : لا أستطيع ياصديقي .
قال سامي)بهدوء( : حقاَ لاتستطيع ؟
صمت مقداد , وكأنه يبحث عن اِجابةِ , ولكن عبثاَ كان يحاول .... أخرج زفيراَ عالياَ ,
ثم قال :
 قل لي أولاً , لماذا تريدها ؟
قال سامي : لا أستطيع أن أبوح لك بذلك .
قال مقداد)بتعصب( : لاتريد أن تقول , مجرد قول تخشى أن تقول , وتطلب مني
أن أفعل ماهو أخطر من ذلك .
قال سامي : لا يامقداد , ليس الأمر كما تتصور .
قال مقداد : اِذن كيف يكون .... اِسمع ياسامي , سوف أفعل لك ما تريد , ولكن
بشرط , أريد أن لأي شيء تريدها .
بدى سامي متحيراً ,لايعرف ماذا يقول , هل يصدق مقداد مقولته اِذا قال... ولكنه
في نهاية المطاف أخبر مقداد بكل شيء .
أصبح مقداد بين أمرين متناقضين , بين خوفه وشجاعة سامي بالسير في طريقِ
مجهولِ .
نظر مقداد بوجه سامي واِبتسم ,ثم قال : هل يستطيع أن تحضر لي نموذج لتلك
المصيبة .
قال سامي :نعم , كنت على علم بأنك ستفعلها , أشكرك ياصديقي , أما النموذج
, فسوف أحاول أن أجلبه لك أنشاء الله.
في أحد الأحياء الشعبية المكتظة بالسكان , والتي تقع في جهة الغرب من مدينة
البصرة , اِخترق سامي شارعا يتلوه الآخر , حتى تمكن من الوصول الى أحد
البيوت ,طرق الباب , فانتظر برهة من الزمن , عندها جاءه صبي لم يتجاوز عمره
العشر سنوات , قال له : أنت أمجد ؟
قال الصبي : نعم .
سأله سامي عن أبيه إن كان موجود ,اختفى الصبي ,وبقي سامي ينتظر بعد أن
تأكد له وجود الأب داخل البيت .
خرج رحيم الى فناء الشارع ,فوجد شخصا كان يتمنى أن يراه منذ زمن , احتضنه
بحرارة ثم أدخله بيته,وهناك سأله عن سبب مجيئه بعد أنقطاع طويل , حيث آخر
مرة شاهده فيها , عندما أنقذه من قبضةرجال الأمن , حين دخل معهم في
مشاجرة كادت أن تجعله يقضي بقية حياته  إن بقيت له حياة  في السجن .
قال سامي : بصراحة يارحيم , أنا جئت لغاية , أبتغي شيئاَ , وهذا الشيء لا يأتي
الا عن طريقك .
قال رحيم )بشهامة( : وسوف يأتيك قبل أن أعرف ما هو , وهل تريدني أن أنسى
جميلك الذي صنعته لي في يوم
من الأيام , أنت الأول الذي صنع الفضل .
قال سامي : لا يارحيم لا تقل هذا أنت صديق قبل كل شيء , أنا جئتك لأجل
...... سوف أقولها بوضوح أكثر هل تستطيع أن تحصل على هوية منتسبي .....
المخابرات ؟
صمت رحيم قليلا, ثم قال : اسمع ياسامي , أنت الليلة تقضيها في بيتي ,
وسوف يكون لك ما طلبت بآخر الليل .
قال سامي : وكيف يكون ذلك ؟
قال رحيم : سوف أجعل أحد أصدقائنا القدامى , لأني كما عاهدتك تركت الذي
كنت أقوم فيه...دعنا نعود للمهم .
سيقوم صاحبنا الذي سوف نختاره ,بعد أن تأخذ الخمرة طريقها في رؤسهم
,ويفقدوا الإحساس بمحيطهم , عندها يأخذ الذي يريده منهم بكل سهولة .
بعد الساعات الطويلة التي قضاها ميثم في المقر الرئيسي للإستخبارات
العسكرية, أعادوه ثانيةالى ثكنته, بعد أن أْعلم بأنه تم إختياره لمهمة هو لم يعرف
تفاصيلها...... وحين حل الليل ,قبع ميثم في حجرته ينتظرقدوم الصباح لأن بمجيئه
, سوف تأتي تلك السيارة ذات الزجاج المعتم الذي يجعل الجالس فيها, يعيش
وسط دوامة الخوف .
وبين موعد الصباح ولحظة ضياع الأحساس بفقدان اِمتلاك المبادرة التي نفذت في
نفسه , لازال وقت طويل .
اِنه الآن كمن كان ينقاد دون رحمة في درب مجهول , لاأحدِ ينظر اليه أو حوله ....
لقد أعلموه اِنهم يعرفون أهله وعنوانه , وكل شيء يخصه ..... آه ما أسرعهم حين
يريدون ذلك ..... في يوم وعندما عرفوا أن كتاباته بدت مؤثرة , أرادوا أن يكون
بقربهم , هو لا يدري اِن كانوا يخشونه أو يريدون استغلال وقع الكلمات فيما يكتب.
عندما استدعوه الى مديرية التوجيه السياسي ,كان يظن اِنه سوف يبتعد بجسده
عن اِتون الحرب الدائرة آنذاك , لكنه لم يكن ليعرف اِنهم راحوا يبحثون في أوراقه
القديمه عن شيء يهمهم جداَ .... يومَ اِختبارهِ في دقةالتصويب بسلاح القاذفة ,
كان الأول على معيته .
لماذا اِذن تركوه ككاتب كلمات , وأخذوه كقناص أهداف في مهمة سرية وكما
يقولون ...... الم يكن بعلمهم أن أساس الدنيا عندما تكونت , كانت مجرد كلمات
لها وقع كبير , فآدم عندما اِبتدأ بتكوين الحياة على الأرض قد تمتم بكلمات في
السماء ...... لابد أن المهمة جد خطيره حين يتم اِستدعائه بتلك الطريقة ,وبسلاح
تدميرالحياة .
أراد سامي اِتيان والدته, ليخبرها بذلك الجدار وقد بدأ يضغط وبشدة على جسده ,
واِنه لم يعد يطيق... لذا فهو ضيف أمه هذه الليلة, تحدثامعاًحتى كاد ليلهم أن
ينقضي... قالت له نازك :لوأن الحياة ربطت معصميك,وجعلتهما بلا حراك,فلا تظن
اِنها تسمى كذلك اِرحل ، فالأرض باقية لاتموت .
وبقدوم الفجر , وقد بقي لظلام الليل جنح , اِنسل خارجاً من بيت أمه , كان يظن
اِنها نائمة , ولكن عيونها كانت تراقب خروجه, وقد تدفقت الدموع من مقلتي
عينيها .
يومان قبل الهجوم على الكويت...
على اِحدى الطرق السريعة والتي تتجه صوب مدينة البصرة ,كان ميثم وبمعيته
ثلاثة أشخاص يركبون تلك السيارة المنطلقة صوب ذلك الطريق, وجوه قد ألف
رؤيتها, فهي تشبه باقي الوجوه , ولكن ما تخفيه... ربما يختلف عن خفاياه هو .
وبالقرب من اِحدى المباني المنعزلةِ عن أبصارالعيون الباحثةِعن آثارالوهن الذي
يعشعش في هياكلها .... توقفت تلك السيارة ليترجل من في داخلها, مسرعين
نحو داخل المبنى .
أربعة أشخاص يسيرون في ممر طويل , يقودهم دليل كان يشير بين الفينة
والأخرى لأحدهم بفتح باب مغلقٍ ليدخل هناك .
كان ميثم آخر الداخلين ... في تلك الحجرة وجد بدلة لونها أزرق , وحقيبة سوداء
تشبه الحقائب التي يحملها رجال الأعمال .
لابد لميثم أن ينهي اِرتداء ملابسه الجديدة في غضون نصف ساعة وكما طلب
منه .
اِستغرب ميثم , عندما شاهد السيارة التي يركبون فيها ,قد اِجتازت الحد الفاصل
بين العراق والكويت , وراحت تزحف في عمق الأراضي الكويتية .
مرت ثلاثة ساعات ومحرك السيارة لازال يدور , وجميع الجالسين في فضائها لا
يملكون اِلا الإستغراب عما يدور .
اِحدى علامات الطريق المرورية تشير لقرب المسافة التي تبعدهم عن العاصمة ,
وحين لم يمض من الوقت اِلا ربع ساعة , اِلا وكانوا يسيرون عبر شوارعها.... كان
سائق العجلة يحاول الوصول وبصمت الى المكان المقصود .
خلال الطريق , كان ميثم يرصد تلك المدينة وأحيائها المتفرقة, وقد بدت هادئة ,
وحركة ساكنيها سلسة , واِبتسامات كان يشاهدها من اللذين يقف بقربهم عند
اِشارات تقاطع الطرق الكهربائية .
وعندما بدت من بعيد أبراج هذه المدينة , وهي واقفة تترصد القادمين من كل
الإتجاهات ,فاِن سيارتهم اِنعطفت باِتجاه اليمين لتدخل في أحد الشوارع المزهرة
أشجارها , وفي منتصف مسافة ذلك الشارع توقفت السيارة أمام أحد الأبنية ,
حينها ترجل جميع من كان فيها , وقد علموا اِنهم أمام قنصلية العراق في الكويت
, حين شاهدوا حروف الإسم مكتوبةعلى لوحة مربعة الشكل , مصنوعة من
النيكل .
يوم واحد قبل غزو دولة الكويت..
بعد ليلة قضاها ميثم ومن كان معه , ليلة تراكمت فيها الكثيرمن الأسئلة , وقد
ظلت بدون اِجابة تذكر... لماذا هم هنا , ولأي أمر يفسر هذا الوجود المفاجىء
..... عندما جاء الصباح , ميثم أدرك أن ثمة حدث سوف يكون , ففي داخل أقبية
القنصلية , باتت النية واضحة , وقد صنعت بوقت مضى , لتنشر الرعب وتنقل
الدمار لمكان آخر .
هي ستراتيجية جديدة قد بدأت , لأن الأرض التي احتضنت أدوات الدمار قد ضاقت
ذرعاً بآثارها وهي تعمل , اِذن لابد من متنفس جديد .
رغم ما يحصل كان على مقربة من اللذين حضرواعبر الحدود اِلا اِنهم كانوا على
الطرف الآخرمن المسافة التي تفصلهم عن معرفة الحقيقة.
وقبل أن يحل الليل , اِقتيدوا وكل واحد منهم على اِنفراد لمكان متفق عليه من
قبل جهات تعمل بصمت يثير الرهبة أحياناً .
لم يكن ميثم ليعرف ,هل كان هو أول الواصلين من بين الذين كانوا معه... لم يعد
يهتم لأمر كهذا , حتى اِنه لم يتكلم معهم كثيراً , ولم يعرف كل أسمائهم .
أمسى ميثم في ذلك المكان الجديد , بعد أن أحضره رجلاً أنتدب من قبل القنصلية
في عجلةِ مدنيةِ من العجلات المسجلة لديها.
كان المكان الجديد يتمثل ببيت وسط بيوت الحي , مجهز بكل شيء , وكأن عائلة
كانت تسكن فيه وقد غادرت لتوها .
بعد أن غادر ذلك الرجل المسؤول عنه  هكذا أخبره  ذلك البيت , بدأ ميثم
يتفحص المكان جيدا ولكنه وجد صعوبة في معرفة الأماكن جيداً .... بدأ يبحث عن
حل , حينها تذكر هيئة الرجل الذي فتح لهم الباب عند قدومهم قبل وقت مضى,
أخذ
ميثم ينادي قائلا : يارجل ... ياأخا العرب .
وفي لحظات جاءه الرجل الخادم , وقف بين يديه قائلا بلغةٍ عربيةٍ ركيكةٍ : نعم بابا ,
أنا... في خد....متك .
اِستغرب ميثم من هيئة وكلام الرجل , وبتمحيص جيدٍ فيهِ , قال وهو يضحك : أنت
....من الهند ؟!
قال : نعم بابا .
قال ميثم : نعم بابا ! , وهل يوجد .... ماما ؟!
قال الرجل وقد فهم على سجيته : يوجد ماما .... في البيت يوجد ماما .
بدأ الرجل ينادي بصوت عالياً وهويردد قائلاً : هيما .... هيما .
اِنتبه ميثم لقدوم اِمرأةٍ ترتدي الملابس ذات الزي الهندي لتقف قرب زميلها وأمام
ميثم , بدأ ميثم لا يعرف طريقة للكلام, يبتدأ
بها كلامه , ولكنه اِهتدى وبطريقةِ غير مباشرةِ الى معرفةِ بعض المواقع في البيت
.في الركن الخاص بمشاهدة التلفزيون , جلس ميثم بعد أن أدارمفتاح التشغيل
الخاص بالتلفزيون , وعند مشاهدة البرنامج , قال وهوفي حالةٍ من عدم الشك :
أجل الآن.....عرفت اِنني في دولةِ الكويت .
لم يكن في عقل سامي اِتجاه محدد ليوصله لتلك الغايه التي ينوي السيرلأجلها ,
كان يريد أن يوصل اِنذار بطريقةِ أو بأخرى الى ذلك الصديق الكويتي , الى عبدالله
....لم يتسلل الى باله أبداً , اِن ما يقوم به قد يعتبر خيانة , لأنه كان لا يؤمن
وبشدةٍ أن يكون بلده هو المعتدي , وينظر اليه على هذا المنوال , حتى واِن نال
هذا البلد شيء من الظلم من أحدهم .
في الطريق وهو يتجه الى مسكن صديقه مقداد , تذكر كلماته ,حين أخبره
سامي بما يود أن يفعله , عندما قال :
 ياسامي , هذه لعبة كبار , هم بينهم يلعبون .
اِبتسم سامي بسخريةٍ وردد مع نفسه قائلاَ : كيف أمكنك أن تقول هذا يامقداد ؟
وهل تظن اِننا سنكون المتفرجون, لا , لا يامقداد , لاأظن اِنهم سيتركونا نقرر ما
نريد .
كانت الساعة تشير الى الحادية عشر قبل منتصف النهار , عندما وصل الى
مسكن مقداد , وبعدأن أمكن له من أخذ منه مايريد .... ركب سيارته واِنطلق صوب
الحدود , حيث مدينة سفوان , ليبحث من هناك عن طريقةٍ ما، فهولديه في تلك
المدينة بعض الأصدقاء, حيث كان يردد مع نفسه : سوف يتمكنوا من مساعدتي ,
وسوف أبعث برسالتي الى عبدالله , فهو صحفي , وسوف يسرع بعمل شيء ما .
على مقربةٍ من الحدود , كان كل شيء يبدو هادئاَ , أو كما يراه سامي الذي وصل
للتو.... من أين يبتدأ , وأي طريقة توصله الى ما يريده , اِنه لايرى حركة سير
للقادمين عبر الحدود , ولكنه تذكر اِن عبدالله كان دائماَ يأتي اليه ثم يعود الى بلده
عبرهذه الطريق , حتى واِن كان الوقت متأخراَ , فالعبور عبر الحدود لايعترف
بالأوقات ....كان يردد : ماذا, هل علموا بقدوم الطوفان وتهيؤا لذلك.
ساعتان قبل غزو دولة الكويت .
حين اِنتصف الليل ,أو قبل ذلك بقليل , راوده بعض النعاس , فاِستسلم له دون
وعي , فغاب وعيه بالمحيط أثناء موته المؤقت فلبث وقت لايعلم كم يكون , ولكنه
أفاق وقد سرقه الباحثون عن متعة العبث مع الموت .... أولئك الباحثون اللذين
جمعوا عدة حربهم المخيفة , يتجهون من كل حدب .... وقف سامي مذعوراَ ,
لايدري كيف وصلوا بتلك السرعة , ولم يك بمقدوره فعل شيء ,فقد فاق الأمر
قدرته , لكنه قرر منذ زمن بعيد , اِنه لا يطيق القيود , عندها قرر العبور .
عجلة عسكرية متوقفة على بعد قليل من وقوفه , ولكن محركها يدور ومقعد
السائق يبدو فارغا ..... أسرع سامي نحو تلك العجلة , فتح الباب وجلس فيها ,
على المقعد الآخر , لحظة وعاد سائقها ,فنظر باِتجاه الجالس وفي ملامح وجهه
سمة التجهم ,وبنبرة زجرِ قال :
 ها, أيها الأفندي , الى أين تظن نفسك ذاهب ، هذا ليس طريق بصره  بغداد .
لم يتكلم سامي بأي كلام , بل أراد أن يجرب مهارة صديقه مقداد في التزوير ,
حين أخرج تلك الهوية , ليجعل ذلك السائق العسكري ينظر فيها... اِرتد الرجل الى
الوراء بعنف على مقعده , رفع كفه معتذرا وهويقول : أسفي لك سيدي , كنت
أجهل شخصك , وكما تعلم ,هذه عجلة .....
قاطعه سامي قائلاَ : لا عليك , فالسيارة التي كانت تقلني ذهبت ولم أعثرعليها ,
ثم اِنني أريد الوصول للمكان .
توقف سامي عن الكلام ليجعل ذلك الرجل يظن بانه في مهمة سرية .... لذا قال
السائق وهو يحث السيارة على المسير:مفهوم سيدي .
في زحمةِ الطريق وهو يغص بالعجلاتِ العسكريةِ , وتحت جنح الظلام الذي ما زال
بأوله , اِنطلق سامي برحلةٍ , لم يكن له بد اِلا القيام بها ,لكنها رحلة كَرِهَ أَوَلها ,
ولايعرف نهايتها .
الساعة تشير الى الثالثة بعد منتصف الليل , وتلك العجلة التي كان يستقلها
سامي قد تعطلت فجاة , سامي في مقصورتها ينتظر والسائق على الأرض يبحث
عن الخلل ، عاد السائق ناحية سامي , أدرك سامي  عندما نظر اليه  أن الوقت
حان ليترك العجلة , لأنها أصبحت بدون فائدة في هذا الوقت , قال سامي
وهويتحدث الى سائق العجلة العسكرية :الى أين ستكون وجهتك أيها الجندي ؟
قال السائق :اِنها ذمة .... تلك السيارة ذمة لدي , أخشى اِن تركتها ، قد يحصل
لها مكروه ,فيصيبني بعض هذا المكروه , سوف أَظل بقربها سيدي.
قال سامي : حسناً تفعل . نظر سامي بوجه الجندي وألردف قائلاً :
أما أنا......
أخذ سامي يجول بنظره في زوايا الإتجاهات , لمح مأذنة جامع بدت عالية ,فأردف
قائلاً :أما أنا , سوف أبيت ليلتي في ذلك الجامع وأنت , اِنتبه لنفسك أيها الجندي
، أنت مثال جيد للثقة .
عند وصوله , وجد باب الجامع مفتوحا , اِبتسم في قرارة نفسه لأنه أدرك اِن بيوت
الله في هذه الديار , تبقى أبوابها مفتوحة على الدوام , قضى سامي ليلته في
ذلك المكان , وهو يبتهل الى الله أن يجد له مخرجاً .
لم يستوعب ميثم في تفكيرهِ , لماذا طَلبَ منه’الرجل المسؤول عنه , أن يبقى
يقظاُ , حين يستيقظ في أيةِ ساعةٍ من الليل , كانت ساعة الحائط تشير الى
الرابعة صباحأ , أراد أن يشرب كوباً من الشاي , فأخذ ينادي على الخادمين
الهنديين بأسمائهم , واحداً تلو الآخر , ولكن ليس هناك مَن يرد الجواب ..... اِنتاب
ميثم شعورأً بالإرتياب , نهض من مكانه, باحثا في أرجاء المكان , فلم
يجد لهما أثر
دارت عقارب الساعة عدة دورات , إنها الآن تشير الى السادسة صباحاْ , وهو لم
يزل خلف طاولة الطعام يجلس ...أخذ ميثم يقول:
 إنه الوقت المحدد , وكما أخبرني ذلك ال.... المسؤول , أول التعليمات , سوف
أقوم بها .
نهض من مكانهِ ناحية الركن الذي يرى فيه التلفاز,وهناك تمكن من إزاحتهِ قليلاً
عن مكانه, ليجد أسفله مغلفاً, إستدار الى الخلف .
وبدأ يخطو الى منتصف المكان وهويقرأ , كان مكتوب وبشكلٍ تسلسلي مجموعة
من الأوامر ,اولها... إصعد الى الطابق العلوي .
إستدار ميثم وتوجه نحو السلم ليرتقيه ,وفي ذلك المكان الذي إنتهى اليه ميثم
لم يكن هناك شيء يجلب الإنتباه , عاد ثانية ليقرأ فوجد مكتوب بالورقةِ , إبحث
في السنديان .
رفع ميثم نظره ليشاهد ذلك الشيء , إقترب منه , وراح يبحث , وجد فيها ماذكر
في الورقةِ , عندها أمسك بالمفتاح وراح ينظر فيهِ ثم أخذ يردد قائلاً :أي’ شيء
مقفل , سوف يفتح بهذا .
تقدم ميثم , فنظر في نهاية الممر باب مقفل ،إتجه نحوه , وحاول تجربة ذلك
المفتاح , إنفتح الباب ودخل الحجرة , على أحد جدران الحجرة ,إستند دولاب
حديدي مقفل , عاد ميثم ليقرأ من جديد في الورقة ,فوجد قد كتب  ثالثا  إبحث
خلف الدولاب .
عندهاوجد ميثم , بعد أن أزاحه قليلاً ,ما يمكن بواسطته فتح بوابة الدولاب , أسرع
ميثم في عمله , ففتح الأبواب ,عندها إرتد الى الوراءِ بشدةٍ وهو مذعور..... ولفترة
من الوقت ظل صامت وهو ينظر بإتجاه الدولاب المفتوح, ثم بدأ يردد قائلاً :
 من الذي ذكرك بي أيتها اللعينة, لقد دعوت الله أن يجنبني إياك , وها أنتِ
تعودين ثانية , ولكن كيف عرفوا بي إني أجيدك .
نظر ميثم بالورقة وقد بدى متعبا , أخذ يقرأ .... قم بتجهيز السلاح ثم إنتظر.
أراد ميثم أن يعرف , هل هناك شيء قد أخفي , لذا بدأ يقلب الورقة , ولكن دون
فائدة , عندها راح يردد مع نفسه بضع حوارات قائلاً : أنتظر ؟! ماذا أنتظر ؟
فجأة دخل الرجل المسؤول الحجرة دون أن يعلم ميثم بدخوله, لأن بابها كان
مفتوحاً, وبغفلةٍ منه’ قال : تنتظر حضوري فقط .
تقدم الرجل المسؤول الى وسط المكان , فأردف قائلاً :لأ’علمك بماعليكَ القيامَ
بهِ....هل تعلم أن الصباح قد أشرق في الخارج والساعة الآن يقترب من السابعةِ
صباحاً , إذهب الى النافذةِ ,ثم أَزح الستار.
إمتثل ميثم للأمر , وتقدم بخطواتٍ تائهةٍ وأنجز الأمر,قال ميثم في مكانه وهوينظر
:أرى مبنى ,ولاأعلم ما يكون.
قال الرجل المسؤول : إنه مقرعام لقوى الأمن الداخلي في العاصمةِ , عملك
هو.... في تمام الساعة الثامنة من صباح هذا اليوم , تمسك سلاح القاذفة,
وعلى ذلك المكان , تطلق ثلاثة صواريخ...... وبدون تأخير ومهما حصل .
فزع شديد قد إختلط بإستغراب ،جعل ميثم يفتح فاه للوهلةِ الأ’ولى , إبتلع رقه
وقال بصعوبةٍ :أنا...أنا أ’فجر المكان؟!
قال الرجل المسؤول وهو يهز رئسه :نعم أنت ,وإلا ماهو سبب مجئك؟...أنت لم
تأت للمكان لأجل النزهة .
صمت الرجل قليلاً , ثم قال بلين :إسمع ياميثم , هذه أوامر , وعليك التنفيذ ,
ومهما قلت أو فعلت , ففي النهايةِ , أنت ملزم بالتنفيذ..... لأنك خير من يقوم
بذلك , وأنت تعرف السبب ... لأنك المحترف .
قال ميثم وهو لم يزل في حالةِ من الذهول : صحيح أنا أ’جيد الرماية , ولمن لم
أَتدرب يوماً على القتل .
قال الرجل المسؤول بإستهزاء : لم تتدرب على القتل ..... عندما تشير عقارب
ساعتي الى الثامنةِ, أ’ريد أن أسمع صوت الإنفجار يهز المكان , عندها تكون قد
تدربت على القتل .
غادر الرجل المسؤول الحجرة , تاركاً ميثم في حيرةٍ عظيمةٍ .
في هذه الأوقات ذاتها..... تداخلت الأحاسيس مع بعضها في كيان سامي الذي
خرج للتوِمن بنايةِ الجامعِ , فالقلق قد أصابه لأن معالم الطريق الذي يسيربه غير
واضحة تماماً ,والغاية التي خرج من أجلها قد تلاشت هي الأ’خرى , ثم إن
المسافة التي تفصله عن صديقه الكويتي لم تزل بعيدة .
لم يعد يملك إلا إلتفاتات عينيه وهي تترصد المكان و بعد أن أجبرته نفسه من
الدخول في عتمة الخوف .... لقد أصبح الطريق غيرَ آمنٍ تماماً و لذا وجب عليه أن
يتخذ مساراً آخر أثناء تلك المسيرة , وعلى بعد عشرات الأمتارمن الطريق
السريع,والذي أ’حتل من قِبلِ العجلات العسكريةِ .
في طريقه ، كان يتابع النظر على الأماكن , عندما لمحت عينا سامي , حديقة
كبيرة ,تحتل حيزاً من المساحةِ , إستدرجته قدماه الى هناك , نظر حول المكان ,
فلم يجد بوابة للنفوذ الى الداخل , لكنه وجد فتحة في المحيط الحديدي للحديقة
,سمحت له بالدخول بقدر حجم جسده .
يبدو أن للإحساس الحيرة معنىً واحداً , ولكن مسالك الوقوع في شباكها بدت
مختلفة .... أحياناً ننساق بإتجاهها دون علم وهذا غالباً ما يحدث , عندها نمسك
بعذرٍ تقليدي , إننا لانعلم.
في ذلك المكان , لم يكن ميثم ليعلم تماماً ما رتب في صناعة الحدث المزمع
إشراكه فيه , لذا لم يعد هناك وقت يستبيحه العقل للتفكير في أمرٍ ما, قد يغيرما
سيكون , فعقارب الساعة تكاد تقترب من الموعد المعلن للتنفيذ.
إقترب ميثم من النافذة وهو يحمل قاذفةِ )ال آر بي جي سفن ( وقد جهزت بصاروخ
, وضع السلاح مُتكِأً على الحائطِ , ثم عمد الى إزاحةالستارة ليتمكن من الرؤية
.... نظر في الساعة المعلقة على الحائط , وقد أطبقت عقاربها على الثامنة, رفع
سلاحه بحذرٍ شديدٍ وألقى به على عاتقهِ , بدأ يصوب على الهدف , بدت الصورة
مشوشة بعض الشيء وهو ينظر من خلال
المنظار , أعاد الكَرَةَ لتصحيح الخطأ...لحظات تمر وميثم مصر على عدم إطلاق
الصاروخ الأول, وكأنه ينتظر حدوث معجزة ما تغير مسار الذي ينوي القيام به .
وفيما هو كذلك ,فإن حالة من الإستغراب إستحوذت عليه , جعلته يزيح عينه من
إلتصاقها بعدسة المنظار , عاد ميثم ثانية الى النظر , وكأنه يريد أن يؤكد حالة
إستغرابه تلك , وقد نجح في ذلك إذ رأى مجموعة من الصغار وقد غادروا بيوتهم
للتو وقد إتخذوا ملعبا لكرة القدم بالقرب من الهدف .
برك ميثم على الأرض , وعمد الى تفكيك القاذفة من الصاروخ الذي تحمله , وترك
كل شيء مكانه , وإتخذ طريقه عبر السلم ينوي الخروجمن المكان برمته .
نسي ميثم تماما كل شيء , حتى الرجل الذي لقنه’ الدرس السابق قد ضاع من
تفكيره أيضاً.... ولكن عند نهايةالسلم ، إنقطع طريق الهروب , عندما إعترضه
الرجل المسؤول قائلاً بوجهه :ماذا ياميثم ؟ الساعة تجاوزت الثامنة , ولم أسمع
صوت إنفجارٍ
واحدٍ... ما الذي حدث قل لي ؟
قال ميثم وهو يتنفس بصعوبةٍ :حدث ما لم يكن في الحسبان , مجموعة من
الصغار، بدأت تمارس اللعب في مكان وأمام الهدف .
ضحك الرجل وقال : وأنت إعترتك مشاعر الرأفة بهم ؟
قال ميثم :وكيف لا , وهم لا ذنب لهم .
قال الرجل : تقول لاذنب لهم ؟! وكيف وقد إعترضوا عملك , اليس هذا ذنب....
إسمع يلميثم , عندما قلت لك قم بعملك مهما كلف الأمر, كنت أعني ما اقول ,
والآن عد لإكمال ما بدأت , وإلا سيكون الحَكَم بيننا هذا .
إن) الحكَم( الذي يعنيه الرجل المسؤول , هوذلك المسدس الذي أخرجه عندما
كان يقف في نهاية السلم .
رفع ميثم يده ينوي المهادنة وإعلان موافقته فيما جاء به الرجل المسؤول , وفي
نيتهِ المراوغة لتمرير أمر كان ينوي القيام به , حيث إستدار ميثم بنصف جسده
العلوي , وقدميه ثابتتين على أرض السلم , عندها إستجمع كل قواه خفية,وإندفع
بجسده نحوه , فكان لزاماً على الرجل المسؤول أن يقع بعنف على الأرض ومن
فوقه ميثم , وفي آن واحد كان ميثم يسرع نحو الباب بخفةٍ والرجل المسؤول
يلتقط السلاح الملقى على الأرض ، ليطلق منه رصاصة , قد أصابة أعلى كتف
ميثم و الواصل تواً الى الباب ...لم يسقط على الأرض , بل أكمل طريقه  بعد أن
فتح الباب  الى الخارج .
الى الشارع الذي تقع فيه تلك الدار , خرج الرجل المسؤول وهو في أزمةٍ حقيقيةٍ
, وكأنه قد أضاع شيءً مهماً , أخذ يبحث في
الأرجاء , فلم يجد له أثراً .... لقد إختفى ميثم في أحد حدائق بيت الجوار, ليغيب
عن الأنظار .
وجد سامي نفسه في مكان , كان قريب لنفسه , أشجار وأزهار وطيور.... قالها
سامي يصف المكان .......آه ما أجمل المكان.
نظر سامي الى تلك الحيوانات التي تعيش في الحديقةِ , فعلِمَ إن الجوع قد نالها
, وأخذَ منها مأخذاً , إنتابه الحزن العميق , وكان كثيراً ,فأراد أن يهتدي الى طريقةٍ ,
يمنح بواسطتها بعض الطعام لتلك الحيوانات , واثناء مروره بين أروقةِالمكان , وجد
أن هناك بعض الطيور والأرانب قد نفقت , فقام بجمعها وتقديمها كوجبة وإن كانت
غير مستساغة الى الباقية على قيد الحياة .
وبمض الصدفة , كان أحدهم على مقربةٍ يراقب عمله بإعجابٍ شديدٍ , حتى
إنتهى به هذا الإعجاب الى عدم الإهتمام نسيان حتى التساؤل :
من يكون هذا ؟ المهتم بحياةِ هذه الكائنات , فيما الأرض تحترق تحت أقدام
الآدميين .
حين تذكر فواز  وهوشاب في العشرين من عمره , وواحد من مجموعةٍ إتخذت
المقاومة الشعبية عملاً لها  إنه لازال يحمل سلاح , كان لزاماً عليه أن يفعل
شيء , قال : لابد لي أن يخبر نواف والآخرين , ولينظروا ماهم فاعلين .
فيما كان سامي منشفلاً بإنجاز ما بدأه’قبل وقت مضى , إذ جاءت مجموعة من
الشباب اللذين يحملون البنادق الآلية القصيرة وفي بالهم أن ثمة غريب قد إقتحم
عرينهم , كانوا يرتدون الملابس البيضاء , ويتقدمهم شاب بدى إنه , ومن خلال
حركته , هو القائد للمجموعة , وبالقرب من سامي توقفت تلك المجموعة مختفية
بين الأشجار , إقترب ذلك المخبر )فواز( من نواف الذي كان يراقب
ما يقوم به سامي وهمس له قائلاً :ها يانواف ماذا ترى؟
قال نواف ) وهوفي حيرة من أمره ( : من أين جاء , لابد إنه من مكان آخر , فأنا لم
أره من قبل.
قال فواز مبتسماً :وهل تعرف كل أهل الديار , ولكن أنظر , إن ما يقوم به من عملٍ
يستحق التقدير.
نظر نواف بتجهم نحو فواز , ثم عاود النظر مجددأً نحو سامي وبدأ يتحدث الى فواز
قائلاً : إسمع , إستدعي )بو ياسر( الى هنا .
نهض فواز وإستعد للمغادرة , نظر فوجد ذلك الجل الكبير في السن قد جاء
مسرعاً, قال فواز وهويسمع نواف : ها قد جاء .
إقترب الرجل الكبير في السن من نواف وقال : ما الذي جرى لكم هنا, والمكان بدأ
مهجوراً .
قال نواف : أنظر .
نظر )بو ياسر( الى حيث أشار نواف , وقد أبدى تساؤلاته كما فعل الآخرين من
قبل , ثم قال مخاطباً نواف : ما أنتم فاعلون ؟
قال نواف : نقبض عليه لنعرف .
قال فواز : ولكنه لم يسيء الى أحدٍ .
قال له نواف بزجرٍ : أ’سكت أنت .
نظر نواف الى الرجل الكبير في السن , وكأنه يقول له , هل ننفذ ماإتفقنا عليه,
أومأ الرجل براسه دليل الموافقة..... صاح نواف
وبصوتٍ عالٍ : قف مكانك ...
إنتبه سامي للصوت القادم اليه,إلتفت ليجد نفسه محاط بمجموعة من الشباب
المسلح, لم يكن بيد سامي حيلة إلا القبول بما ينوون القيام به , اصبح بوسطهم
واقف وهوينظر بالوجوه ... ثم قال :أنا لم أفعل شيء يسيء الى أحدٍ , فخلوا
سبيلي .
قال نواف : وكيف ونحن لا نعرف حتى من تكون ؟
قال سامي :إني عابرسبيل , توقفت في المكان لأجل الإستراحة , فرأيت حال
هذه المخلوقات وقد إزدادت سوءاً , فصرت أطعمها وإن كنتم لاترغبون , فدعوني
أرحل .
قال الرجل الكبير في السن : خذوه الى حجرةإدارة الحديقة , لنعرف تفاصيل أكثر .
قيدت يدا سامي الى الخلف , وإقتيد الى حيث قال الرجل ...... وفي حجرة الإدارة
.أخذ سامي يتحدث اليهم عن سبب قدومه الى هذه الديار وإنه لايمكن أن يكون
صيداً مهماً لتلك المجموعة المسلحة ...... وحين أخبرهم عن عبد الله أبن بلدهم
, وعن العلاقة التي ربطت بينهما , أصبح الراي الأخيروالذي أفتى به الرجل الكبير
في السن , هو ماسوف ينفذ ,ولأن محل سكناهم هناك
فكان مقصدهم مدينة الكويت , عندها إنطلقت سيارة الشوفرليت البيضاء مخلفة
غبار رمل الحديقة يعلو.
في الطريق , وهو جالس في المقعد الخلفي للسيارة , بدأت الأفكار تجول في
رأس سامي ... لماذا وافقوا على رأيه وإمتثلوا لخطواته لرؤية عبدالله , لكنه تمنى
لو أخبرهم برسالة مفادها , إنهجاء الى بلدهم كمحطةللهروب من مكامن الضياع
الذي أصاب أوصال وطنه, وهو لاينوي بناء وطن هنا .... تمنى لو أخبرهم إنه جاء
يبحث عن السر الذي جعل الحياة في دياره وقد إنقلبت رأساً على عقب , لأنه
أدرك لو تمكن من السفر عبر الزمن القادم , لربما يستطيع أن يجد مبتغاه .
لقد خرج بعد أن إجتاز أسوار مملكته , تلك الأسوار التي تتعرف بسهولةٍ على
المغادرين , ولكنهالم تتح الفرصة للقادمين .
في الطريق المؤدي الى مدينة الكويت كانت تلك السيارة التي يقودها نواف , بدت
وقد تجاوزت حدود السرعة المعقولة , ولكن سامي لا يزال يتمسك بالصمت
مرغما , وهو يلتصق بجسد فواز , فيما راحت نظرات الرجل الكبير في السن
الجالس في المقعد الأمامي للسيارة , تراقب حركات سامي تارةً , وأ’خرى ,كأنه
كشاف قد خرج في مهمةٍ عسكريةٍ , وفجاة أبطأت السيارة من
سرعتها, فأصبح سؤال واحد قد إحتكرته عقول الجالسين , ما الذي حصل ؟ ... لم
يكن من أحدٍ يملك الإجابة , بإستثناء نواف , الذي أشارللرجل الجالس بقربه , عن
وجود نقطة تفتيش عسكرية , ليست بعيده بالقدرالكافي للعقول , لكي تعرف
كيف يمكن أن يصاغ الحل.
أدرك سامي إن الخطر القادم سوف يناله بالتأكيد , كذلك الآخرين ..... ما العمل
إذن , فلابد من حل يكون كالومضة حين يأتي لأن المسافةالمتبقية للوصول الى
مكمن الخطر , باتت قصيرة .... قال سامي : فكو وثاق يدي .
إلتفت الرجل البيرفي السن نحوه , ورمقه بنظرة ثاقبة , تكاد تكشف ما يخفيه من
نية .... قال سامي : نعم فكوا وثاقي ... لو توقفت هذه السيارة أمام نقطة
التفتيش , ونحن على هذه الحالة من الفوضى .... أنا مقيد , وسلاح وأعتدة تملأ
المكان, أظنكم قد فهمتم الرسالة.
قال الرجل الجالس في المقعد الأمامي وبإستعجال : ليكن معلوم لديك , في
حالة كهذه , لو تلاشت كل الفرص المتاحةللنجاة, حينها يكون العمل بأي واحدة
منها واجبأً, وإن كانت أسؤها .
إلتفت الرجل الى فواز قائلاً :إعمل على فك وثاقه .
إقتربت السيارة ببطأ من نقطة التفتيش , ثم توقفت في منتصف الطريق , تقدم
أحدهم بخطوات ثقيلة وهويشهر سلاحه , وقف على مقربة , حيث نواف خلف
المقود , نظر بالوجوه ثم قال : على الجميع الترجل من السيارة وبسرعة .
إنتاب الجميع شعوراً بالقلق المخيف , ولم يكن بمقدورهم فعل أي شيء , ولكن
سامي.... قد تخطى مرحلة ذلك القلق الذي خيم , حين قال : أيها الأخ إنك تجعل
الوقت يمر , ونحن في عجلة من أمرنا .
إغتاظ الرجل العسكري من كلامٍ كهذا , لذا عمد للإنحناء قليلاً , وبدأ ينظر
للمتحدث من خلال النافذة , قائلاً له:
 إعطني اوراقك وبسرعة !
مد سامي يده , ليلتقط هويته التي إكتسبها بمساعدة أصدقائه الذين تركهم
هناك ,خلف الأسوار..... دفع بها الى ذلك الرجل العسكري , ذلك المتلهف للقيام
بشيءكان يضمره بسابق الإصرار ..... أخذ ينظر بوجه سامي ,
وكأنه يريد أن يمارس فراسته في إكتشاف ملامح شخصه , ولكن ... عندما وقع
نظره على ما أ’عطي له , حتى تراجع الى الوراءِ قليلاً .... ثم أدى التحية
العسكرية بإنضباطٍ عالٍ .... أرجع ما أخذه مسرعاً وهو يقول : أسفي لك سيدي ,
ولكنه واجبي .
قال سامي )بجِدٍ ( : لا عليك .
أعطى الرجل أوامره لرفاقه بإزاحة الموانع عن طريق السيارة, لتنطلق من جديد .
ساد الصمت , وبدى الجميع وكأنهم يقطنون أرض قفار لولا هدير محرك السيارة ,
ولكن ضحكات الإعجاب التي أطلقها فواز بالموقف الذي كان به سامي , كانت
بدايةلإندثار زمن الإرتياب الذي خيم على أنفس الجالسين , حينها عرفوا إن الحكم
على أحدهم للوهلة الأ’ولى , يبدو مثاراً لإقحام النفس في دوامةِاللوم , لذا
إستطاعت نظرات العائدين تواً من دكتاتوريةٍكانت تمارسها العيون , أن تتلاقى في
منتصف المسافة .
بدأت الشمس تقترب من مكانها المعهود في السماء , لتعلن إنتصاف النهار ,
وميثم لازال يختبىء بين الأشجار, وقد بدأت قواه تنهار, حين كان الجرح الذي
أحدثته رصاصة الرجل المسؤول ينزف’ دما..... بدأ يحدث نفسه قائلاً :ياإلهي , إن
كان لابد لي من الهلاك , فليكن في في تراب تلك الأرض , ذلك التراب الذي يغفر
الذنوب ..... وبالقرب من أهلي .
وليكن..... لابد لي من الخروج من هذا المكان , ولكن لأبعد الخوف عن نفسي أولاً
, لأنني لم أقترف ذنباً.
أخذ ميثم يتفحص حالة جرحه , إذ إهتدى الى طريقةٍ يمكن بواسطتها لملمة
شظايا الجرح المتكون .... إستطاع أن يخلع قميصه الذي يرتديه , وبواسطة
)الفانيلة( تمكن من تطبيب جرحه..... إستجمع قواه للنهوض من محل جلوسه
والخروج من المكان وهو خائف يتلفت .
سيارة الشوفرليت البيضاء تقترب من مشارف مدينة الكويت .... تدخل في السير
بأحد شوارعهاالرئيسية , وميثم بين بيوت الحي يبحث عن طريق للخروج من أَزَمةٍ
حقيقيةٍ وقع فيها , وبعد أن تمكن له تحقيق بعض ما أراد, حين إستطاع الوصول
الى أحد الطرق .
من بعيد.... ثمة سيارة قادمة وهي آتية بسرعة , أومأ ميثم الى قائدها , فلم
يتوقف ! إزداد الإعياء بميثم , وبدى وكأن أركان المكان تتناوب محالها , فقرر....
وكان القرار الأخير .
سيارة الشوفرليت البيضاء قادمة وهي مسرعة , صرخ فواز من المقعد الخلفي
قائلاً : إنتبه , إنتبه يانواف , أمامك إنسان سوف تصدمه .
إنتبه نواف فجأة , وإستطاع أن يوقف السيارة لتكون مقدمتها الحديدية أمام قدمي
ميثم مباشرة .... الذي سقط على الأرض مغشياً عليه .
للحظاتٍ , دارالصمت دورته في المكان , لم يخرج أحد من السيارة .... وبعد حين ,
قال الرجل الكبيرفي السن , متحدثا الى نواف قائلاً : أ’نظر , لعلك قتلته .
توجس نواف خيفة في نفسه , لكنه ترجل من سيارته , كذلك فعل الآخرَين , وظل
سامي يراقب من خلال زجاج السيارة الأمامي ..... أمام السيارة , وقف الرجل
ينظر وبجانبه فواز  ينظرالى نواف وماسوف يقوم به...... قال نواف :
 هذا الرجل أ’صيب قبل الوصول الى هذا المكان , ثم إنه لازال على قيد الحياة .
قال الرجل الكبيرفي السن : نعم , إن ما تقوله صحيح , فالدماء التي على قميصه
قد جفت منذ أوقات مضت .
قال نواف : ما العمل إذن ؟! هل نتركه في مكانه ؟
قال الرجل )بإستهجان ( : ما الذي تقوله , نترك إنسان بين الحياة والموت , فليكن
.... مشكلة آ’خرى الى السابقة .
حين تمكنوا من رفع ميثم من على الأرض , وإدخاله السيارة في المقعد الخلفي ,
إنطلقوا من جديد.
قرب أحد المنازل في ضاحية من ضواحي مدينة الكويت , وقفت سيارة الشوفرليت
البيضاء , ترجل نواف وتحرك قاصداً بوابة الدار ....من بعيد وقف الرجل الكبير وفواز
بجانب السيارة , يراقبان ما سيحدث .... وبعد برهة من الزمن , خرج رجل يرتدي
ثوباً أبيض , ويضع الغترة البيضاء على راسه , تصافح مع نواف , ثم أشار له نواف
بإتجاه الواقفين .
وبعد أن إقترب الرجل , أيقن سامي أن القادم هو عبدالله , خرج من السيارة ولم
يتوقف , بل ظل ماشيا بإتجاه القادمين .
وقف سامي , وكذلك عبدالله , والمسافة التي تفصل بينهما قليلة ....إنتاب الإثنان
شعور غريب , جعل الحاضرين يقفون منبهرين , لم يبتسم أحدهم للآخر , أو بعض
كلمات قد قيلت , لكنهم تسارعوا نحوبعضهما , إحتضن عبدالله سامياً.....
ولمدة من الزمن وهم على هذا الحال , وبعد حين .... نظر سامي بوجه عبدالله
,نظرةً مفادها الإعتذار , أراد أن يعتذرله من ألم قد أصابه , ألم تسببته’ أحلام
بعضهم المريضة ..... إقترب عبدالله من ذلك الرجل الكبير في السن , وهو ممسك
بيد سامي , وقف أمامه وبدأ يقول : لك كل الشكر لأنك أحضرت لي , مَن إفتقدته
منذ زمن , ولي حاجة له , وبشدة في هذه الأيام .
كانت هناك رغبة لدى عبدالله في إستضافة الجميع , لكن الرجل الكبير في السن
, بدأ بالإعتذار, متعللاً بذلك الجريح الذي يرقد الآن في سيارتهم .... أراد عبدالله أن
يفهم , إقترب ليرى بعينيه, إقترب أكثر , عندها إعتدل وقال وفي نفسه شيء من
الخوف : هذا الرجل لن يصمد كثيراً , فهو متعب جداً ... الى أين يريدون به في
هذه الأوقات العصيبة ؟ ولكن لوأردتم إنقاذه ,ولابد من هذا الأمر , عليكم أن تجعلوه
يمكث في داري , ليتسنى لنا إحضار الطبيب الى هنا .
ساعة مرت , منذ أن خرج الطبيب من عيادة الرجل الجريح ,مقِراً بأن حالة الجريح
سوف تستقر بمرور القادم من الزمن .
لازال ميثم في شبه غيبوبة , والجميع في حالة من الإنتظار لمعرفة من يكون هذا
المستلقي في )ديوانيةالضيوف( .
وقريب من قدوم المساء , إستفاق ميثم ، فوجد نفسه محاط بعيون ترقبه , ظن
إنه في عالمٍ آخر , وبات لايميز بين الأوقات .
كان يرغب في قرارة نفسه أن يعرف ماهية الوضع الذي هو فيه , بين أعداء أم
صفوة أصدقاء , لكنه إستبعد كونهم أصدقاء , حين تذكر إنه في غير بلده , وكان
آخرَ اللَّذين يعرفهم , قد طارده’ , فأصابه’ في ناحية من جسدهِ .
كان ميثم يتمنى أن يتقدم أحدهم , من هؤلاءِ اللَّ ذًَين يراهم بهيئةٍ شبهِ
مشوشةٍ , ليخبره’بكلِ شيءٍ , وإنه’ بريء .
ولكن ... حين تقدم عبدالله نحوه , كما تمنى هو , وكما يراه الآن .... بدى ميثم
وكأنه صار يختفي داخل نفسهِ, هرباً من ذلك القادم , كان يظن إنه’قدعَلِم بأن
وجودهِ في هذه الديار لأجل غاية ولأي غايةٍ كان موجود .
عبدالله يتقدم , وميثم في فراشه يتكور, كقطعة قماش أ’زيحت من سرير تمهيداً
لرفعها من المكان, إنه يظن نفسه خائفاً ولكنه حتى هذا الشعور لايملكه الآن
,لقد كان تحت وطأة إضطهادٍ قديم جداً ..... توقف عبدالله عن التقدم , ولكن ميثم
لا زال يعاني الصراع بين قوى الشر التي جاءت به الى مكان ,لم يعد يعرفه الآن
أين يكون  ونفسه التي تشبه الطير, تحاول التحليق دون رقابة من أحدٍ .... وفي
نبرةٍ ,أشبه بالخشوع ,بدأ يردد بكلامٍ غير مفهوم قائلاً : لا , لم أفعل شيئاًولم أ’نفذ
ما أرادوه مني .... أين أكون , ومن تكونون ؟ .
أومأ اليه عبدالله بيده , وقال ولم يكن بمقدوره أن يفهم شيا: إهدأ .... إهدأ ياأخي
, أصدقائي هؤلاء وجدوك ملقى على الطريق فأتوا بك الى هنا , لما تظن نحن
أعدائك ,فأنت مخطىء تماماً , نحن هنا لمساعدتك .... إستريح فقط , ولا نريد
منك شيء أكثر من ذلك .
إقترب عبدالله من مكان رقوده, وجلس بقربه أحس ميثم بإطمئنان وبدأ يهدأ .....
قال عبدالله وهو يبتسم :
 يبدو عليك إنك لم تذق الطعام منذ وقت ؟
أومأ ميثم له برأسه بالإيجاب .... نهض عبد الله وهو مدرك إن الرجل سوف يتعافى
,وحين جاءه بالطعام , بدأ إحساس الخوف الذي سيطر عليه , يهرب منه بعد كل
لقمة يضعها في فمه , حينها بدأت نظرات عينيه تطمئن لتلك الوجوه التي يراها
حوله .
وما أن أكمل طعامه حتى بدأ يسرد حكايته , ويلقي كلماته على مسامعهم , وما
إن إستوضحت لهجة كلامه , حتى نظر الجميع
نحو سامي , والذي عرف مقصدهم من ذلك , ولكن أنباء ما رواه ميثم , قد جعل
الجميع في ذهول مما سمعوه , وإنتفت عندهم أهمية من يكون .
أصابت عبدالله الحيرة , ففي ذلك الصباح كان ولده يلعب مع باقي الصبيان , لايعرف
ماذا يقول , هل تتساوى الأعمال , ولكنه وجد لنفسهِ عذراً , إن الرجل لم يفعل
...... عندها قال عبدالله للحاضرين : هذا الرجل لايمكن له من البقاء في هذا
المكان , إنهم
سوف يقلبون الحي بحثاً عن أثرهِ , لابد له من ملاذ آمن .
قال الرجل الكبيرفي السن : أنا أملك المكان , سوف نأخذه معنا .
وفي أحد السراديب , تم تهيئة مكان للعيش له لفترةٍ من الزمنِ لاأحد يعرف كم
ستطول , فالأوضاع في الخارج تنذر بقدوم الأخطار.
عاد عبدالله وبرفقته سامي الى بيته , بعد أن تم إيداع ذلك المغامر في ملجأهِ
....... عادوا وفي النفس حوارات وتساؤل , ولكن من يجيب عليها , أم هل تترك
بدون جواب .
مرت الأيام , والمملكة التي عشقها سامي تكاد تتمزق , وتتقطع أوصالها , وشيئاً
فشيئا بدأ معالم درب العودة يندثر, فأي طريق سوف يسلك , وكل الدروب لايعرف
نهايتها .
حياته أصبحت لقاء ثم وداع على الحدود , وقف على مفترق الدروب ينظر , هذا
يؤدي الى مملكتهِ , وآخر يذهب به الى المجهول فعاد التساؤل من جديد , أي
الدروب سوف أسلكْ ؟
قال لرفيقه ميثم : لقد إخترت البقاء قرب الأسوار , لتبقى نظراتي على مملكتي
متصلة .
وافقه الرأي , وسار أمامه , حين أشار لهم بذلك الرجل الكبيرفي السن , عن ذلك
الطريق الذي يؤدي الى أحد مخيمات اللآجئين المقامة عند الحدود .
وبوداعٍ عن بعد , لوح لهم عبدالله ومن كان معه , وغاب الرفيقان عن أنظارهما بين
طيات رمال الصحراء .... حاول سامي إقتفاء أثر العجلات التي أحدثته المركبات
العسكرية , وخلفه كان ميثم يهتدي على خطاه ......
قالوا له , إنها مسيرة ساعات .
ولكن الطريق بدى وكأنه إزداد طولاً , فزاد الوهن الذي حل بأجسادهم , صعوبة
في المشي , ولكنهم لم يتركوا رغبتهم في الوصول ..... حين فقدوا الوعي , لم
يكن بمقدورهم أن يعرفوا ماذا حل بهم , ولكن عندما أفاقوا ,
وجدوا أنفسهم في مكان بين وجوه قد عرفوا ملامحها , قالوا لهم إنهم في مخيم
الإرطاوية للآجئين .
مخيم الإرطاوية على الحدود الغربيه  سنة 1991
كعادته , كان يمر بين العائلات التي تسكن الخيام , بين الفينة والأ’خرى منذ أن
جاء الى المخيم , بعد أن عثروا عليه وحيداً في الصحراء , بعد معركة غير متكافئة
زجت فيها وحدته العسكرية , ولم يبقى من أفرادها إلا القليلين , وكان هم واحد
منهم .
في مروره الأخير , بدأ يتساءل عما يراه , جمهرة من اللآجئين في مكان قريب من
بوابة المخيم ؟ ترى هل هي مشكلة كل يوم مع حراس المخيم الغاضبين على
كل شيء , أم ماذا ياترى ؟ .... سوف أسأل هؤلاء النافذين من تلك الزحمة
البشرية لعلني أجد الجواب ......إلتقى بأحدهم وسأله’ : ماذا عسى أن يكون ؟
قال له بضجرٍ : كما يحدث كل يوم , يأتون بواحد أو إثنان , ثم يحلقون حوله أو
حولهم لمعرفة الأخبار ... وكما ترى , هم يظنون إن الحال سوف يتغير , ولم يعلموا
إن الحرب أكلت كل شيء .
قال له )بإشمئزازمن كلامه( :كفى , كفى ... لاأ’ريد أن أسمع المزيد .
إستمر في تقدمهِ ليرى هو بنفسهِ ,هذا أو هؤلاء , فهو لم يعرف العدد , وإن كان
العدد الموجود في المخيم كبير , ويكاد ينفجر المكان من زحمةِالخيام .
إقترب ليسمع الأحاديث أوبعضها , ولكن زحمة الأصوات أفقدته تلك المتعة ....
ولكن هو يستطيع أن يتصرف في حالاتٍ كهذه , إذ إستطاع أن يشق لجسده
طريقاً, ليشاهد ويسمع عن كثب .... وأخيراً نجح في ذلك .
عندها قال:
 وأخيراً وصلت , ولكن أين هؤ......لاء .
أ’صيب بالذهول وأطبق الصمت عليه ... حاول الكلام , ولكن لم يستطيع , وقد
إعتقد إنه’ إبتلعَ لسانه , أراد جاهداً أن يظهر وجهه بوضوح من بين الموجودين ,
ولكن كثرة الوجوه لم تترك له الإستفادة من تلك الإرادة, عندها صاح بكل ما أ’وتيَّ
من قوةٍ : سامي ... سامي .
إتجهت الوجوه جميعها الى مصدرصوت الهاتف تواً , عندها إنفرد باللقاء فأردف قائلاً
: سامي يا أَعز الأَ صًَدقاء , كنت أظن إنناسوف نلتقي في مكان ما .
نظر سامي , ولم يستطع أن يتمالك نفسه , إذ إنهمرت الدموع من عينيه عندما
نطق بإسمهِ... سيد تعبان .
إحتضنه هو أم الآخر ........ لم يكن ميثم ليعرف ذلك , وأي علاقةٍ تربط الإثنان ,
لابدأن تكون متينة ,لأن اللقاء لايشبهه شيء ..... ومن بين الجموع إقتاد سيد
تعبان , ذلك الوافد الجديد الى مكان ما , وهويقول له :
أهلاً بيك في مخيم رفحاء أيها الصديق .
وعند باب أحد الخيام الصحراوية , وقف أربعة من نزلاء المخيم , ينظرون قدوم سيد
تعبان وصحبته التي معه , وعند وصوله , تحرك الأربعة من أماكنهم , ووقف سيد
تعبان بباب الخيمة قائلاً : لو تعرفون من جاءاليكم ...... هو رجل لو عرفتموه , لن
تندموا على معرفته أبداً ... أيها الأصدقاء , هذا صديقي وأخي سامي أحمد فهد ,
لقد جاء ولا أعرف كيف جاء , على الأرض كان يمشي , أو من خلال الهواء , لقد
غاب عن عيني في يوم ما كلمح البصر, وعاد كما تشاهدون....
كما تعود الإبل الى مهاجعها , وهي تعرف الطريق ..... لو تحدثت عنه طويلاً ,
سوف أظن إنني أقول القليل , لا تظنوا إني أعاني من عقدةٍ ما , بل هو
إحساسي إتجاه من عرفت فيه تلك الصفات.
ضحك سامي وقال :أين أنا فيما قلته ياصديقي ياسيد تعبان .
قال وهوممسك بيده : لا عليك , فكل ما قلته بحقك , هو أقل من الحقيقة ...
سوف أ’عرفك ببعض أفراد شعبك ......
أ’نظرالى هذا الواقف الى اليمين , إنه’ حمزة , رغم إني أعرف أن الجميع عانى
من الإضطهاد بالتساوي , لكن , سوف أ’سمي .... كما قلت لك , حمزة من بغداد
, وهذا الذي بقف في الوسط , إنه كاكا آري , هو من السليمانية . ولكنه جاء عن
طريق الناصرية, له قصة مشوقة , لو سمعتها لاتصدق .
إبتسم سامي , ونظر الى ميثم , الذي عرف ما يقصده بتلك النظرة ..... نظر سيد
تعبان الى سامي وقال بمزحة :
 ماذا ياسامي , هل تعرفه ؟!
أكمل سيد تعبان حديثه قائلاً : على كل حال , هذا الذي تراه في الوسط , هو
أكرم من مدينة الرمادي , ولا تسألني كيف جاء لأنني لا أعرف ... ولكنني أعرف
إنه ضاق طعم المر في حياته , حتى وصل الى هنا .
أما هذا الأخير , إسمه سعد , وهو مسيحي من بابل , أحببت أن أسكن معه في
خيمة واحدة , ولهذا سبب , فهو يسكن مدينة عمرها آلآف السنين , العالم كله’
يعرفها , إلا أهلها ، وهو واحد منهم , لذلك قررت أن أشاطره السكن , لكي أ’لقي
على مسامعه بعض من عظمةِ هذه المدينة .
ضحك سامي , وكذلك الآخرين , فيما راح سامي ينظر الى ميثم قائلاً له : تقدم
ياميثم .
وبالقرب من سامي وقف , قال سامي : هذا صديقي ميثم , وقد قطعنا الصحراء
معاً, ونحن في طريقنا الى هنا , ولكنني لا أعلم لحد الآن من أي مكان في البلاد
هو .
وبين ليلة وضحاها , أصبح سامي أحد نزلاء مخيم رفحاء , وبعد إختباروضعه فيه
سيد تعبان , طلب اللجوء الى خيمته , وكان هذا أول لجوء يحصل عليه سامي ,
فيما أصبح ميثم يشارك الآخرين في السكن , بعد أن حصلوا على خيمة كبيرة .
الحياة في المخيم تشبه العيش في سجنٍ كبيرٍ , حدوده في أحيان كثيرة تكون
مميتة , وتلك مفارقة كبيرة تحدث هنا , لأن كل الموجودين , صغارً وكباراً , نساءاً
ورجالاً , يدركون وجودهم كيف حصل , ولكن حراس المخيم , أ’ولئك المدججين
بالسلاح, الذين يقفون عند زوايا المكان , يصرون على أن يجعلوا المكان سجناً ,ولا
أحد يعلم , هل هم لحماية من يتواجد هنا , أم لمنهم من المغادرة.
لعبة حساب الأيام , باتت من الألعاب المهمة , التي يمارسها الجميع وبملل مؤلم
في هذا المكان .. حيث يوم يمضي وآخر يأتي ولا فرق بينهما , بإستثناء حلم قد
يأتي مع مجيء هذه الأيام ..... كان في عقولهم حلم يتراود.... عندما كان لهم
وطن , حلم صغير يتناغم مع ما يحتضنه الوطن من هبات آتية من الله , ولكنهم
قتلوه هناك , فأرادوا هم أن يصنعوه في القفاري وبين الأسوار , وقد تركوا نهر
الفرات الذي ينبع من عيون جنة خلقها الله
عند كل مساء .... يجلس الجميع أمام الخيام , وعيونهم تربو ناحية الشرق , من
أمامهم أسوار المخيم , وخلفها أسوار مملكتهم .... يتكلمون وبين كلماتهم حروف
تتساقط , لو جمعت لكونت معنىً للحنين , حروف تبعثرت , ولم تستطع اللحاق
بنطق الكلمات , فالبكاء لا يجتمع مع الكلام .
إقترب كاكا آري من سامي ليجلس بقربه, أحس به ، عندما علِمَ أن في نفسه
هواجس تحاول الطيران الى مكان ما , حاول كاكا الكلام وفي نفسه حزن عميق
...قال : كنت طفلاً صغيراً , عندما كانت عائلتي المتكونة من أبي وأمي وإخوتي ,
تسكن الجبال في قريةٍ من قرى السليمانيةِ , أتذكر كنت أقطف ثمار الجوز من
الأشجار المنتشرة في كل مكان ...لم أكن أعلم هل إنقضى اليوم أم لا , فحياتي
كانت أشبه بحلمٍ .
فجأةً ...وفي غفلةٍ من الزمن أ’قتطعت عائلتي من جذورها... كما تقطعت أشجار
البلوط في حربٍ عبثية ...فأصبحت’ وعائلتي بلا جذور
قال سامي وهو حزين : لو كشفت عن قلوب الموجودين اللذين تراهم الآن , في
هذا المكان...لوجدت في كل قلب قصة ,والتي تعجز قرائح أعظم المؤلفين الإتيان
بالمثل .
قال كاكاآري :عندما كبرت , وجدت حياتي أشبه بحياةِ المتشردين .... صرت أقول
لماذا حصل لنا هذا ؟!
ضحك كاكا آري بسخريةٍ ... ثم أردف قائلاً : ولكن عندما جئت الى هنا , عزفت عن
ذكر حكايتي , لأني وجدت حكايات الآخرين أغرب من الخيال .
الشمس غابت عن سماء المخيم , وأصبحت الخيام محلات لتدوال أحلام اليقضة
.... فكم هو جميل أن يصنع الحلم في عالم الخيال وأن يكون الحلم يدعوالى
السمو.... فعالم الخيال أبعاده واسعة .
قال سامي : إني أحلم ، كما لو إني قد إستيقظت مبكراً , ففتحت نافذة غرفتي ,
فرأيت الأطفال بملابسهم الزاهيةِالألوان , يسييرون على الأرصفة , يجدون السير
للذهاب الى مدارسهم , وشرطي المرور يساعدهم في عبور الشارع.
قال سيد تعبان : إني أحلم , كما لوإني عدت الى بيتي , بعد نهار عمل طويل ,
وقد أنجزت عملي بدقة ,ثم تذكرت إن خلل ما في عملي , فعدت مسرعا ,
لتصحيح الخلل الذي كان .
قال أكرم :إني أحلم لو إني قد دعيت من قبل أصدقاءٍ لي للذهاب الى مرفق
سياحي في الجنوب , على شاطىء الخليج ، في مدينة أ’م قصر.... فوجدت
هناك مدينة سياحية لم ترى عيني مثلها , شواطىء رملية , ومناظر خلابة .
قال سعد : إني أحلم لو إني كنت في مكان قريب من مطار للطائرات , وهي تأتي
من أنحاء العالم كافة , وجميعها تحط على أرض بابل , وأرى جموع من الزائرين
وهي قادمة لتشاهد مهرجانات بشتى الألوان .
هي كانت أحلامهم التي يحلمون .
الشمس أشرقت .... شاهدَ سامي أن حلقة من البشر قد بدأت أمواجها تتوسع
وتنتشر , إقترب ليرى..... فهاله ما رآى , أجساد تلاحمت , وأيادي تشابكت وهي
تبحث عنف وِلدَ في لحظاته , لكنه يتخبط .
وقف هناك ... ماذا عساه أن يفعل , فالجميع منشغلون بغنيمة الفاعل ..... ولكن
الفاعل مجهول , أبعد هذا عن ذاك , فعادوا كما كانوا .... عندها أطلق صوتاً , يشبه
الصراخ ..... كفى , كفى .
عندها إبتعدت الوجوه عن الوجوه , وإتجهت صوب ذلك الرعد , وآذانهم بدأت تسمع
كلمات تقول :
 ياأخوتي , كفى ..... ألم يحن الوقت لتعرفوا من أنتم , من أين جئتم , وعلى ماذا
قدِمتم , لقد
تركتم خلفكم في كل مدينة حضارة , كانت تعلم الدنيا ، ما معنى الدنيا , إنظروا
كيف أصبح حالنا
عندما عبدنا الفرد , وتركنا الله والوطن , وأصبح مصيرنا الضياع ..... نستجدي
العطف من الآخرين , وفي ترابنا دفن كل الأنبياء .
لم يتكلم أحداً من اللذين سمعوه , بل إكتفوا بالصمت , وإنسلوا الى خيامهم
يفكرون , وبقي سامي في المكان ينتظر .
كثيرة هي أوقات الهموم في المخيم , وحتى في لحظات السعادة , تتعمد
ساعاتها أن تمارس الحزن, فالليلة سوف يقام حفل عرس , لشاب وشابة قد
أبرموا عهداً في الزواج , قبل أن تقودهم خطواتهم الى رفحاء .... سوف ينشدون
أغاني تمتد عميقاً في سنوات الغربة القادمة , أو هكذا يظنون ....إجتمع الجميع ,
وهم في غناء الحزن حين يجتمعون , يتحدون الدنيا .
صاح الجميع : هيا ياحمزة .... فلتكن أغنيتك , صابرين .
غنى حمزة بصوت حزين : صابرين.... يايمه
بلكي الله ينطي إمراد للصابرين .... صابرين
صبر الأشجار إعلى الندى .... صابرين
صبرالغريب إبوحشته صابرين
وبعد شهور.... وحين حل الشتاء , بدأت وجوه جديدة تأتي , لاتشبه وجوه سكان
المخيم , وجوه بألوان مختلفة , قيل إنهم مبعوثو الأمم المتحدة الى سكان المخيم
....لأي شيء جاءوا , لكن سكان المخيم أذكياء , فعرفوا الجواب قبل أن يقال .
تنامى إحساس لدى الجميع بأنهم مرغوب بهم , ولأول مرة منذ سنين , قالوا لهم
إنكم تملكون الخيار , فقرروا ماذا تريدون . فكان لزاما على سامي ورفاقه من إتخاذ
القرار .
في الليلةِ الأخيرةِ , قبل ما سوف يكون عليه الغد ..... لابد من حديث , قال
سامي : فليكنْ ... همْ أرادوا أن يجعلونا نحلم في بلادهم , لابأس .... لأننا سوف
نكون الرابحين , لأننا سوف نعود ,بعون الله سنعود,لنجعل الحلم الذي حلمنا به
في يوم ما ,حقيقة ..... ومن يستطيع أن يمنعنا , عندما نقول لا , أو نعم بعد تفكير
, والفكرهبة من الله , كما هي الحال في باقي الهبات .
غادرت تلك الشاحنة العسكرية المكشوفة , أرض المخيم , متجهة الى مكان ما
..... على متنها خليط من الناس , وفي مؤخرة الشاحنة , جلس سامي ورفاقه
يتبادلون النظرات , وقد بدت في
معظمها تائهة , تبحث عن جواب لأسئلةٍ متراكمةٍ في أذهانهم , والتي لم ترتوي
بعد , من معرفةِ ذلك السر الذي أبعدهم من أرض الولادة الى ما هم مقبلين عليه
..... ولكن قطرات المطر الآتيةِ من أعنان السماء , إستيقظت فيهِم نقطة الرجوع
الى واقع أجسادهم , أين تكون .
توقفت الشاحنة العسكرية , وتبين تتبعها أ’خريات , في قاعدة عسكرية .... نظر
الجميع وهم على أرض المطار العسكري و الملحق بالقاعدة , الى تلك الطائرة
المهولة قي الكبر وهي جاثية على الأرض, تنتظر إبتلاع مَنْ يقترب مِنْ مؤخرتها
االمفتوحة .
أعداد كثيرة مَنْ حشر في بطنها , كذلك كان القلق كبير عند الجميع وهم ينتظرون
إقتلاع ذلك الطير العملاق بأي شيء يربطه’ بالمكان ....... وعندما كان سامي
ورفاقه , قد إيقنوا إنهم أصبحوا فوق السحاب , أدركوا أنَّ محطات السفر كثيرة ,
ولابد من التوقف في جميعها .
قال سامي لذلك الجالس بقربه :أنظر ياسيد تعبان , هل ترى الأرض وقد بدأت
متشابهة من الأعلى.
قال سيد تعبان وهو ينظر من خلال النافذة : بلى إنها كذلك .
قال سامي : ولكن أرضنا , تختلف , فأنا وأنت.... وجميع هؤلاء أقدم البشر , فنحن
من ذرية إبراهيم , وهو توطن في أرضه , وهي أرضنا .... وهو من ذرية آدم , وآدم
هبط من السماء ونزل أرضه الموعودة , وهي أرضنا , وأنبت شجرته’ في مكان
لازال عذب الماء وأجاجه يسيران جنب الى جنب , لكنهما لايتخاصمان أبداً .... إنها
شجرة التآلف .
قال سيد تعبان : أتعلم ياسامي ؟ كم أتمنى أن أجعل كل أيامي تسير بقربك .
نظر سامي الى وجه ذلك السيد وقال : إذن إعلم سوف نأتي أماكن كثيرة ,
تعلمنا أشياء قد لا نعرفها . بل دعنا نجزم من الآن إننا لانعرفها .... وسوف نلتقي
أناس يقربوا لنا طريق معرفة الحقيقة , تلك الحقبقة التي قد تبْكينا كثيراً , ولكننا
سوف نعود .... ليس بالمهمِ كيف نعود , لأننا نعرف الطريق الى بيوتنا , ولا يوجد
أحدأً في العالم يعلم خفايا أنفسنا , كما نعلمها .نحن نخبأ بذور الحياة منذ آلاف
السنين في ترابنا .
ليس مهماً من يكون في وقتها هناك , كما مِنْ قبلهِ مَنْ كان ....ولكن أنظر الى أور
مَن كان فيها, وأنظر الى بابل مَن كان فيها , بل الى أي مكان في الديار , سترى
مَن كان ..... إنه الإنسان , والسر يكمن فيه ..... لقد كان إجتيازنا للأسوار ,
الخطوة الأ’ولى , ولكن لاتخف ياصديقي , نحن أصبحنا نمتلك مفاتيح بوابات
الأسوار ... فكل ما نحتاجه هو دقائق الزمن .
عندما نعود ... وعند أول بقعة من الديار , سوف نكفكف دموع زوجة شابة , فارقت
الزوج عنوةً , عندما تاه في الظلام , وقد تركها تعيل إبنتها الوحيدة من معاشِ
وظيفةٍ بائسةٍ .... ثم نكمل الطريق الى , فنعيد الثقة الى أولئك اللذين إمتهنوا
تضييع فرصة الإحساس بكونهم بشريستحق الحياة .
ثم نكمل الطريق الى كربلاء , مع الزائرين ، لنلتقي بذلك الجسد المسجى في
الضريح , ونقول كما يقولون .... يامَنْ جعلتَ الدموع تعَبِد طريق السلام .
رواية : أسوار مملكة السر
سعد الغالبي .

جميع الحقوق محفوظة 2015 | وكالةالوطن الحرالإخبارية أعلن معنا رخصة الإستخدام والنشر خريطة الموقع سياسة الخصوصية تصميم :القيسي ويب | الأفضل لكم